أكثر ما يلفت في كتاب "وجوه" لمحمد شكري هو تجنب الثراء الأسلوبي، ربما نتيجة ضحالة أسلوبية أو قلة استعداد. نتكلّم هنا على الاسلوب بوصفه مساوياً للكتابة ذاتها! القصد ان شكري يصرّ على تقديم تجربته وحياته ويومياته كما هي، او كما هي قدر الامكان. هذا هو الاحساس الاول لهذه الكتابة العارية والفجة والصادمة أحياناً في صراحتها وعدم مواربتها. والهدف في هذه الكتابة مباشر وسريع، ولا يحتمل التأليف، بما هو صنيع المخيلة الروائية او السردية. ليس معنى ذلك ان هذه الكتابة فورية وغير منقحة، بل المقصود انها تميل بشكل حاسم الى التسجيل، وليس التخييل. إنها واقعية محضة: هناك شيء ضد المخيلة في هذه الكتابة. الأرجح ان فيها عيشاً واقامة في الأمكنة، أكثر من شؤون الكتابة نفسها. لا يمدح شكري هذه الحياة، بمعنى انه لا يقدم لها اطراءً لغوياً او تخييلياً، ولا يخترع لشخصياته مصائر سردية تختلف عن مصائرهم الفعلية. انهم بشر حقيقيون. هذا لا يعني ان شخصيات روايات الآخرين ليست حقيقية، بل يعني، ربما، أن تلك الشخصيات تم اخضاعها لكتابة ثانية، أي مُنحت حياة أخرى. بهذا المعنى يبدو محمد شكري في روايته الجديدة الصادرة عن "دار الساقي" خشناً، ولا يحسب حساباً سوى للواقع والاستسلام لأقداره وظروفه ووجوهه. وشخصياته تمثل جزءاً حميماً من عالمه الذي تحتل "طنجة" معظم مساحته. لقد دأب شكري على نقل نظرته المباشرة للحياة الى الكتابة، ولذلك لا يتدخل كثيراً في الحالة التي تظهر فيها الشخصيات داخل كتابه، والطريقة التي يطلّون بها على القارئ. والقارئ أصلاً مستبعد هنا عن مشاغل الكتابة، اذ من المفترض ان يقرأ بحسب رؤية المؤلف، اي ان يعرف مسبقاً ان ما يقرأه يصعب تصنيفه. صحيح ان "وجوه" منشورة على انها رواية، الا ان هذا لا يعني ان على القارئ ان يُدخلها في سلوك سردي او سلالة روائية. انها في الواقع ليست رواية بل مجموعة من المحاولات الروائية : فكل شخصية او كل وجه، في الكتاب، يبدو كمشروع روائي او قصصي غير مكتمل، ولا يبدو ان في نية شكري ان يكمله، بل انه ليس معنياً بهذا كله. إن الكتاب في النهاية، وكعادة المؤلف في كتبه الأخرى، مبذول لوجوه مهمشة. انهم أبطال العوالم السرية، والحياة السفلية المزدهرة في حانات طنجة، وحواريها المفتوحة لرياح كثيرة. طنجة التي هي البطلة الخفية والحقيقية لكتابة محمد شكري وحياته في آنٍ معاً.