غرف جرداء المعنى متتالية تنتظم في مبنى يسكنه طلاب ومعلمون.. قيادة تنسق أداء الصفوف الدراسية وفق جدول حصص منتظم في الزمن، هناك كتاب يبدو هو مفتاح الحل يجلس على طاولة الطالب فوق المنضدة على أمل أن يذهب ما يسكنه من معرفة إلى عقل الطالب. طالب، معلم، كتاب، زملاء، مدير، قاعة صفية... ماذا نريد أن نقول للطالب، أو بالطالب، أو في الطالب؟ من يجب أن يقول؟ المعلم، أم الكتاب، أم الطالب، أم الشراكة؟ هل يمكن إنتاج شراكة معرفية؟ من صاحب المردود المعرفي لوجود الطالب في الدرس؟ الوطن، أم اختيارات ولي الأمر، أم الطالب نفسه، أم جميع ما سبق؟. المعرفة في تسارع وتراكم يومي، هل المعلم أم الكتاب مؤهلان لمواكبة التحديث، أو نقل آخر تحديث للمعرفة وبالتالي يحق لهما بقاء السلطة المعرفية بأيديهما. جمهور المدارس يتحدث معلموها في حجرات الصف مع طلابهم في كتاب مقرر لعدد من الموضوعات المتسلسلة.. عام يتلوه عام.. ما الأثر؟ ما حجم أداء العقل الذي يمكن الحديث عن طريقته في التفكير والبناء والتغيير؟. نقطة السباق الأس لكل هذا الوجود الهادر من طلاب المدارس تبدأ من لحظة التقاء ثلاثي علاقة الأس؛ المعلم والطالب (الذات) والدرس (الموضوع). حالة تساوٍ وتبادل بين ذاتين وموضوع.. نعم تساوٍ وتبادل في اتجاهين بين ذاتين وموضوع. ماذا يعني هذا؟ يعني أن السجال والحوار المعرفي يبدأ من ذات لديها وعي سابق وقبليات معرفية تشكلت من الحس والتجربة. ومن موضوع (نص معرفي) له سلطته، مكون من ألفاظ ونسق ومجال، بمعنى أننا أمام ذاتين بمسبقات وعقل قبلي وسلطة وتباين بين الذاتين، وأمام نص له سلطة وفهم وتكوين بنائي. هذه الخارطة الوصفية تقوم عندي على تركيب سنني لطبيعة الحياة والإنسان والأشياء؛ نشأ هذا التركيب في طبيعة الذات بأبعادها الأربعة؛ وعي ومادة وروابط وحكم، أو لنقل أننا أمام عقل تصوري - عملي - عملياتي - حكمي/ تصديقي. متجاوزين ثنائية الجسد والعقل إلى تقرير أن حقيقية الذات البشرية هي ملكات أو قدرات أربع، يشكل الإنسان بها حياته، ويحمل مسؤولية العمارة وحمل الأمانة. منها الداخلي (الإدراك والعمل) ومنها الخارجي ( الحكم والربط)، وكأننا أمام عقل يقود الداخل، وعقل يقود الخارج. هذه المسبقات التي تم تقريرها تقودنا الآن للإجابة عن سؤال الأرق والتحدي الوجودي في طبيعة إنشاء وتوليد المعرفة أو لنقل مساعدة الأجيال في إقرار منهجية أكثر واقعية في بناء الإنسان الحر المنتج للمعرفة دون المساس بتقزيم كينونته وفرض سلطة باسم العلم تعمل على قولبته أكثر مما تعمل على مساعدته في إنشاء ذاته المسؤولة. تقف الذات -المعلم والطالب- أمام الموضوع -النص أو الطبيعة أو العقل-.. في الصف الدراسي، المواجهة بين وعي المعلم والطالب وموضوعية النص لمحاولة أسكناه معنى النص من لغته؛ لفهمه، ومحاولة تجاوزه بإنتاج فهم جديد وليس فقط محاولة التطابق مع معنى النص إلا من جهة فهم مراده كما هو. عناصر النص هي اللفظ والسياق والمجال، أي قراءة لا بد أن تحتكم إلى ترتيب العلاقة بين هذه العناصر، كما أن الكون أو الطبيعة تتألف من ثلاثة عناصر هي الشيء والعلاقة والمجال، وهذا يساعدنا في استبصار فهم النص وفق آلية الفهم الاستظهاري أولاً، وهي مراعاة سياق النص في الأخذ بالظهور اللفظي والمجال في القراءة، أو آلية الفهم التأويلي ثانياً، التي تحتفظ بالمجال لكنها لا تراعي السياق في حمل اللفظ على الظاهر. هذه القراءة ومحاولة الفهم للنص تقودنا لفقه طبيعة الذات القارئة للنص من جهة أنها تحمل عقلا يمكن تسميته العقل القبلي الذي تكون بالحس والتجربة حتى أصبح مخزونه قبليات صورية (الزمان والمكان الواقع المجمل)، وقبليات تصديقية (السببية العامة، افتراض وجود واقع موضوعي، عدم التناقض). بين كيان الذات وكيان الموضوع تتولد تفاعلات متجددة تنفعل وتتفاعل أيضاً مع كيان ذات أخرى هي الطالب، في حوار بين ذوات متعددة، وموضوع واحد. هذا التعقيد الواضح لا يمكن اختزاله في معلم وكتاب وطالب وهدف معرفي جاهز يراد نقله لعقل آخر، ليس قالبا فارغا أو صفحة بيضاء كما تدل حركة التدريس القائمة في المدارس.