ولد نصر حامد أبو زيد عام 1943، في قرية قحافة، في بيئة إسلامية، وقد تعرف في بداية شبابه الى الإخوان المسلمين وتأثر بأفكارهم، في الفترة نفسها التي بدأ يصعد فيها نجم عبدالناصر، غير أن قراءته لكتاب سيد قطب (معالم في الطريق) قادته إلى وجهة أخرى بعيدة من التوجهات الإخوانية، والإسلام السياسي، هذه التوجهات التي رفعت السياسي إلى مستوى قداسة الديني ومُحرَّماته، وأنزلت الديني إلى مستوى السياسي وقضاياه المصلحية الرمادية وما يتمخض عنها من صراع المصالح وتشابكها. غير أن تراجعه عن التوجهات الإخوانية لم يقلل من انشغاله بالإسلام وقضاياه، بل كرَّس حياته الفكرية كلها لإعادة انتاج منهجية جديد تملك إمكانية قراءة النصوص الإسلامية المؤسسية في سياقها التاريخي. وقد قام في كتابه (نقد الخطاب الديني) بتحليل مفهوم (الحاكمية) تحليلاً تاريخياً كاشفاً عن أساسه الأيديولوجي في التاريخ الاجتماعي والسياسي. وتعرض في كتابه عن الشافعي لتحليل بعض جوانب الصراع على تدوين الذاكرة بين (أهل الحديث) و (أهل الرأي)، ولدور الشافعي في محاولة (التوسط) بينهما، فانتهى تحليله إلى أن خطاب الشافعي في حقيقته إنما يحمل الانحياز الأيديولوجي لمذهب أهل الحديث. وكان الصراع آنئذ يدور حول أيهما له الأولية: العقل أم النقل، وبعبارة أخرى، كان السؤال: إذا تعارض العقل والنقل فأيهما تكون له الهيمنة أو السيطرة على الآخر؟ بمعنى آخر، هل يتم تأويل النقل لرفع التعارض مع العقل شأن ما يفعله العقلانيون أم يتم الاحتكام إلى (النقل) شأن أصحاب النقل؟ ويرى أبو زيد أن التخلف الذي نعانيه على جميع الأصعدة، يكمن في تضاؤل سلطة العقل. وعلى هذا فإن سعي الخطاب الديني لتكريس سلطة النص هو في حقيقته تكريس لسلطة عقل أصحابه على بقية العقول، فيصبح الخلاف معها كفراً وهرطقة! والحال أن السلطة التي يتمتع بها النص لا تعني بأي حال مفهوماً دينياً، ولا تنتمي إلى مجال الدين، بقدر ما تنتمي الى تاريخ الاجتماع السياسي للمسلمين. لذا فهو لا يدعو إلى التحرر من النصوص، بل من (سلطة) النصوص بعد أن أخذت طابعاً شمولياً، وتحولت قيوداً يمسك بها (الرجال). وهو في هذا لا ينسى التمييز في أحكامة بين النص التأسيسي (القرآن) والنصوص الشارحة التي تراكمت حول النص الأصلي. والقراءة الجديدة التي يقترحها، أو عملية التأويل اللازمة للنص لا تتعلق بالنسبة إليه بالتمييز بين تفسير حرفي وآخر أقل التزاماً بالحرف، إنما يرتبط – كما يقول – «بإدراك مجمل الظاهرة القرآنية داخل سياقها التاريخي، وذلك هو ما يتيح لنا إدراك طبيعة الاتصال بين الله والبشر المقصودين بالخطاب». أما حديثه حول النصوص فهو حديث يدور حول (سلطة النص) التي يضفيها الفكر الديني على النصوص، وليس من الضروري أن تكون نابعة منها. ويأتي بمثال إيجابي من سلوك عمر بن الخطاب تجاه النص، في مسألتي (المؤلفة قلوبهم) و (قطع يد السارق)، فهو لم يتعامل مع أحكامها كسلطة مطلقة، بل كان ببساطة قد أدرك النص في سياقه. فدعوة أبي زيد للتحرر من سلطة النصوص، ومن مرجعيتها الشاملة، ليست إلاَّ دعوة لإطلاق العقل الإنساني حراً من كل قيد. وهي دعوة لا تقوم على إلغاء الدين ولا على إلغاء نصوصه، لكنها تقوم على أساس فهم النصوص الدينية فهماً علمياً. ومن جهته، فأبو زيد يفترض أن دعوته هي الدرس العلمي الذي يحدد مجال فعالية النصوص تحديداً دقيقاً بعيداً من الاستشهاد العشوائي بها خارج السياق المُحدَّد لدلالتها، والفصل بين ما هو شأن دنيوي وما هو شأن العقيدة والدين. ولقد تساءل إثر الضجة التي أُثيرت حول كتابه (الإمام الشافعي): هل يمكن تجديد الفكر الديني من دون أن نتناول (تراث) هذ الفكر تناولاً تحليلياً نقدياً، يتجاوز حدود التناول التقليدي ذي الطابع الاحتفالي، الذي يكتفي بالتكرار من دون التجديد؟ وهل الأئمة الكبار أو الخلفاء الراشدون ما هم إلاَّ بشر مارسوا حقهم في الاجتهاد؟ ويخلص من ذلك إلى التأكيد على أن وحدة المعرفة الإنسانية واتساعها المتزايد تفرض ضرورة الفحص المتجدد وإعادة القراءة الدائمة، لاكتشاف ما لم يكن ممكناً كشفه من قبل في هذا التراث. وفي دراسته عن الشافعي رأى ضرورة رصد آليات (التأصيل) ذاتها من حيث هي منهج يجده مبثوثاً بطريقة ضمنية في كتاباته، وارتأى أنه من أجل الكشف عن هذه الآليات علينا إدراك أن مجالات المعرفة متداخلة في ثقافة محددة وهذا الإدراك يسمح بضم الشافعي والأشعري والغزالي في سياق معرفي واحد. وثانياً أن المفكر على صلة بالمشكلات الاجتماعية لعصره، وثالثاً أن منهجه متصل ب (رؤيته للعالم) التي تختلف من جماعة إلى أخرى داخل الثقافة الواحدة، فاعتقد أن (رؤية الشافعي للعالم) تجعل الإنسان مقيداً بمثال سابق، ورابعاً، أن الجماعات المختلفة كانت تعبر عن نفسها في الاجتماع الإسلامي من خلال اللغة الدينية، وبالنزاع حول ملكية النصوص. فتاريخ الفكر الإسلامي ليس تاريخ بحث عن (الحقيقة) وحسب، بل هو التاريخ الاجتماعي بتجاذباته ومصالحه. خامساً، على هذا فإن سيطرة اتجاه فكري في مرحلة ما لا يعني أن الاتجاهات الأخرى ضالة وكافرة، وسادساً، أن المستقر والثابت في الفكر الديني الراهن ينتمي في أحيان كثيرة إلى جذور تراثية. وحينما ينكشف الإساس الأيديولوجي لبعض هذا المستقر والثابت تنتفي عنه صفة الحقيقة الثابتة. وهذه المسألة تكشف عن الاختلاف بين منهج القراءة القديم التكراري وبين منهج (تحليل الخطاب)، وهو صراع حول (الوعي) الإسلامي الراهن. ويتوقف المستقبل الثقافي لبلداننا برأي أبي زيد على نجاح أي من القراءتين في الهيمنة على الدراسات الإسلامية. عمل أبو زيد على ثلاثة محاور: حاول قراءة النصوص (بيانياً) في موضوعاتها اللغوية وما تختزنه من معانٍ ظاهرة، ثم أخضع تلك النصوص لقراءة تأويلية معتمداً على المنهجيات الحديثة، وانتهى أخيراً إلى طرق باب الاجتهاد في موضوعات مثيرة للجدل، فانقسم الناس في ما قال وفي ما اجتهد، أخضعه المتشددون لأحكام التكفير والزندقة ونظر إليه بقية الناس والمنصفون منهم كمجدِّد مهم، يمكن أن يُخطئ ويصيب، لكنه يملك الحق والشجاعة الفكرية والأخلاقية ليسير على الطريق الشائك والطويل طريق العقل الحرية والتنوير. * كاتب سوري