في مطلع ثلاثينات القرن الماضي وضع الفيلسوف والمستشرق والمنظر النمساوي ليوبارد فيس (محمد أسد) عدة نظريات تاريخية وفلسفية مهمة عن العرب شرحها في كتابه الأشهر: الطريق إلى مكة (أو الطريق إلى الإسلام). خصص أسد قسما جيدا من هذا الكتاب لوصف المملكة العربية السعودية في أطوار التأسيس الأولى، إذ عاش هناك لسنوات رافق فيها المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - ورجالاته وخالط أهلها وتزوج منهم. وبعد مغادرته للجزيرة العربية بسنوات أصدر كتابة باللغة الإنجليزية The Road to Mecca، في نيويورك عام 1954. ينقض أسد في كتابه مفهوما شائعا أن البداوة تعني بالضرورة البدائية ويبين ذلك قائلا: «إن حياة بادية الجزيرة العربية منذ القدم حياة عجيبة.. حياة عظيمة حافلة بقصص وفاء وكرم ونبل لا مثيل لها ونماذج لتضحيات وشجاعة بطولية ليس لها شبيه في العالم». ويضيف: لقد توصلت عبر دراساتي ومعايشتي للعرب بأنه لا يمكن أن نصف البداوة بالبدائية على الإطلاق!، قطعا، البدو ليسوا قوما بدائيين. ثم يكمل «لديهم قيم ومبادئ وثقافتهم الأساسية متقدمة جدا على غيرهم خصوصا في الأخلاق وجوانب الوعي الروحي، كاستيعابهم الناضج لحقيقة الحياة والموت، وإدراكهم الفطري لوجود خالق أعلى منظم للكون وأدب التعامل معه ومع الروح واستصغار الجسد وتهذيب غرائزه، وكذلك التسليم للطبيعة ببطشها وتحننها، وإجلال مخلوقاتها والتكيف معها بمنطقية وشجاعة مع الصبر والحلم، فهم يمتازون بضبط عظيم للجوارح والمشاعر الداخلية بشكل فطري طبيعي رغم عدم وجود المحفزات والدوافع». ومن خلال التحليل والدراسات ثم معايشة قبائل العرب خرج أسد بنظريات فلسفية مهمة من بينها ما وصفه بالكشف عن «أسباب اختيار الله سبحانه وتعالى هؤلاء العرب لحمل رسالته»، فيقول: «بين هؤلاء الأقوام في الجزيرة العربية ظهرت أقدم عقائد التوحيد المطلق بإله لا شريك له منذ العبرانيين الأوائل وحتى الرسالة التي ختم الله بها كافة أديانه السماوية، لأن في ثقافة العرب وفطرتهم الأصلية تكمن قابلية عميقة لحمل أمانة عقدية وروحية عظيمة ونشرها بكل جرأة وبسالة ويقين لا يزعزعه تعلق بمواد الدنيا ومباهجها. هكذا حكى أسد قصة سكان الجزيرة العربية وأخبر عن تاريخهم وخصالهم للعالم وما منا إلا وقرأ أو سمع بكتاب الطريق إلى مكة، أو شاهده على أرفف المكتبات العامة والتجارية أو لمح تداوله الكبير في منصات الإنترنت وغيرها. فهو بالفعل مرجع مهم جدا وله شهرة عالمية إذ حاز منذ طباعته أول مرة على اهتمام وإطراء نقاد غربيين كثر ولا يزال يحتل مكانة رفيعة حتى اليوم إذ تم تصنيفه واحدا من أهم 50 كتابا من كتب الرحلات الروحية في العالم. ولكن، هل تعلم أخي القارئ أن تحليل أسد الذي قرأته أعلاه وكثيرا من وصفه للمناطق والنساء والرجال العرب غير موجود في كتاب الطريق إلى مكة المترجم إلى العربية والذي قرأته أو ستقرأه في مكتبات مدينتك أو في أي مدينة عربية أخرى؟! كما لن تجد فيه وفي كتب الرحالة المترجمة إلى العربية كثيرا من المعلومات الدقيقة والصور الفوتوغرافية النادرة والخرائط والرسوم التوضيحية الفريدة التي وردت في الكتب والمخطوطات الأصلية! فمن خلال بحث مقارن تضمن عينة من المؤلفات المشابهة تبين لي أن هذا الأمر غير نادر! فكتب الرحالة الغربيين التي بين أيدينا اليوم لا تعكس النصوص الأصلية التي كتبت باللغة الإنجليزية بمحتوياتها الكاملة على الإطلاق، إذ أزيلت منها أثناء النقل إلى اللغة العربية، وبكل أسف، أجزاء مهمة للغاية وتم تحريف أخرى كثيرة. وهذه الظاهرة «العربية» لا يمكن أن تخرج عما يمكن تسميته «خيانة الترجمة» خاصة من قبل مترجمين عرب من جنسيات معروفة لأسباب عنصرية وثقافية. في كثير من كتب الرحالة يتم الإغفال المتعمد من قبل بعض المترجمين «العرب» لبعض المفاصل والتفاصيل الإيجابية المهمة من تاريخ قبائل الجزيرة العربية تحديدا ضمن نصيبهم من الضغائن والعقد التاريخية التي لوثوا بها كثيرا من الكتب المترجمة وربما أعود للتفصيل والاستشهاد بنماذج في مقالة موسعة بإذن الله. إن تعريب الوثائق التاريخية أحد أكثر مجالات الترجمة حساسية وأهمية، خصوصا فيما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية. فلم يكن تاريخ الجزيرة وتحديدا في القرنين الماضيين ليعرف لولا تدوينات هؤلاء الأوروبيين الذين غامروا في رحلات استكشافية إلى شمال وأواسط الجزيرة العربية ورسموا خرائط لمناطقها ووصفوا قبائلها ومناخها وتضاريسها لأول مره بعد غياب توثيقي شبه تام دام لقرون طويلة. إن تاريخ الأمم هو أهم مرتكزاتها في التطور والنهضة وعليه يجب أن يلتفت المترجمون والباحثون السعوديون لهذه القضية وأن تولي الجهات المتخصصة اهتماما خاصا بمراجعة كل ما ترجم من تاريخنا في الداخل والخارج وسيعود هذا بأثر عظيم على حفظ واسترداد أرشيفنا المفقود! * أستاذ مساعد في الترجمة واللسانيات، جامعة الأميرة نورة