الذاكرة القاتلة للمكان غالبا ما تصنع هويات مفككة داخل المدينة لأنها ذاكرة تتصارع وتتنازع على العلاقات الاجتماعية التي يفترض أن تنمو في هذه الأمكنة وبالتالي يظهر التنافر والتفكك المديني في أقصى صوره.. يصف علي حرب مدينته بيروت في كتابه "خطاب الهوية" بقوله "إن بروز الطوائف والقبائل الحديثة أخذ يتهدد الفسحة التي كانتها، عاصمة بلده، بما هي فضاء مدني ومكان موحد ومساحة عامة، فطغى المحلي والخصوصي على العام والكلي، وتغلبت الذاكرة على المكان وحلت التواريخ محل الجغرافيا، حتى بات هو يشعر بأنه يحيا في مدينة تفككت الأواصر بين الجماعات التي تقيم على أرضها، واستحكم العداء بين ساكنيها". يتحدث "حرب" عن الذاكرة القاتلة للمكان الذي صارت تهيمن على المدينة العربية بدلا من الذاكرة الجماعية التي تصنع المجتمع المتجانس. هذه الذاكرة فككت المدينة العربية وجعلتها في حالة معاناة اجتماعية دائمة. في آخر زيارة لي لمدينة القاهرة شعرت بمسحة حزن تتصاعد في هذه المدينة التي عايشت البهجة العربية طوال العقود الماضية، لم تكن المدينة التي أعرفها، فقد تغير شيء أو ربما أشياء فيها، حاولت أن أبحث عن مظاهر البهجة التي كانت تحتويني كلما زرت الحسين والقاهرة القديمة لكني لم أجد سوى وجوه عابسة تملؤها مظاهر القلق. وفي الرياض أشعر كل يوم بتزايد ضغط المدينة على من يسكنها. مدننا العربية تزداد تفككا وحزنا، تتفكك ذاكرتها كل يوم لتعطي ظهرها لمن يسكنها. ذاكرة المدن العربية عانت من خلل "التحديث" ابتداءً من النصف الثاني من القرن العشرين فقد كان هناك صراع داخلي بين التحديث العمراني والتحديث الثقافي والقيمي، صاحبه غياب للأنظمة (بالطبع يوجد أنظمة عمرانية ولكن يسهل كسرها وتجاوزها دون أن يحاسب من كسرها). هذه الحالة جعلت المدينة العربية تنفصل عن ساكنيها شيئا فشيئا حتى أصبح سكان المدينة غرباء فيها، فهي مكان يجمعهم ويعملون فيه لكنه لا يصنع الروابط الاجتماعية الحقيقية. شجع هذه الظاهرة صعود "القبائلية" الحديثة في المدن الكبيرة التي جعلت من ذاكرة المكان ذاكرة صراع وحولت فضاءات المدينة إلى مجالات "معلمة" بعلامات ذات تصنيف اجتماعي. تزامن هذا مع إهمال للمحتوى الطبيعي التضاريسي للمدينة الأمر الذي حولها إلى فضاء مسطح ممتد إلى ما لا نهاية. لدي قناعة بأن المدينة ليست مجرد أمكنة بل هي في جوهرها تعكس بهجتها أو حزنها من خلال الناس الذين يسكنونها، لذلك لم أعد أحفل بالمكان نفسه بقدر ما يعتري من يعيش في هذا المكان من مشاعر وأحاسيس. في العمارة هناك من يهتم بالإحساس والشكل وهي دراسات تركز على المحتوى البصري للمكان على علاقات البشر، لكن يندر أن نجد دراسات تهتم بتأثير العلاقات البشرية على الإحساس بالمكان. مدينة مثل الرياض يوجد فيها مبان وأمكنة مدهشة شكلت تاريخ التطور الحضري والمعماري في المملكة لكن يندر أن يشعر بها الناس. لا بد أن يكون لهذا سبب نفسي وثقافي يجعل من التفاعل المجتمعي مع المدينة هامشيا. بالنسبة لي هذا التجاهل يثير القلق لأنه يقول: إن المجال المجتمعي الثقافي في هذه المدينة يعاني من ضغوط تجعله لا يشعر بالأمكنة والعمارة المحيطة به. الذاكرة القاتلة للمكان غالبا ما تصنع هويات مفككة داخل المدينة لأنها ذاكرة تتصارع وتتنازع على العلاقات الاجتماعية التي يفترض أن تنمو في هذه الأمكنة وبالتالي يظهر التنافر والتفكك المديني في أقصى صوره وتفقد الأمكنة جماليتها. هذه الظاهرة التي أصبحت تميز المدن العربية الكبرى صارت تمتد للمدن المتوسطة والصغيرة في الوقت الراهن، لأن ذاكرة المكان القاتلة مترسخة في أذهان الناس وسلوكياتهم ويعكسونها عفويا من خلال تفاعلهم مع الأمكنة التي يعيشونها. لا بد أن أذكر الحاجة المتصاعدة لتحقيق المدينة "السعيدة" التي أثارها "شارلز مونتغمري" في كتابه، فهي نوع من المواجهة لتنامي الذاكرة القاتلة للمكان وتبشر بحياة حضرية مختلفة. من الواضح أن هناك حاجة إنسانية عامة وليست عربية فقط لتجاوز التدهور في العلاقة بين البشر والمدن التي يسكنونها. إنها حالة "سيكولوجية" متنامية في الوقت الحاضر تجعل من عمارة المدينة وإدارتها مسألة تستحق أن يفرد لها مؤسسات خاصة تتجاوز وزارة الشؤون البلدية بمفردها.