يوم الأربعاء الفائت في مدينة أبها احتفلت هيئة السياحة ببدء فعاليات الصيف في كل مناطق المملكة، المثير في هذا الحفل هو "المكان" الذي عقد فيه الحفل، فقد تم تلوين أسفلت الشارع بألوان زاهية، وبتشكيلات هندسية تذكرنا بفن "القط" العسيري، وتم تحويل الشارع إلى "قاعة عرض" ومكان يحتفل بالمدينة، ويعبر عن شخصيتها. بصراحة كنت منذ زمن أحاول أن أتعرف إلى الكيفية التي يمكن أن يساهم فيها "الاحتفال" بتجسيد شخصية المكان والتعبير عن هوية المدينة، ولأن مدننا عادة ما تنتقد بأنها مدن جافة، تدير ظهرها لسكانها وزوارها، وأن المجال العام فيها مخنوق إلى الحد الذي جعلها مدناً "وظيفية" لا تحمل صفة الإنسانية، وهو ما جعلنا نبحث في الآونة الأخيرة عن "أنسنة" المدينة؛ لأنه من غير المنطقي أن "نؤنسن" مدينة هي في الأصل إنسانية، وطالما أن شعورنا بمدننا وصل إلى حد افتقار الأنسنة، فبالتالي كان من الضروري محاولة استعادة هذه الجوانب الإنسانية، التي تحتاج إليها المدينة السعودية. الاحتفال في المكان العام، كان ومازال أهم العناصر الإنسانية لأي مدينة، وأبها في احتفال فعالية الصيف عبرت عن إمكانية صناعة شخصية مكانية خلاقة، لكن الأمر المهم هنا هو لماذا فقدنا العلاقة مع المكان الخارجي، ولماذا تقوقعت مدننا على فضاءاتها الداخلية وأدارت ظهرها لفضاءاتها العامة. أول سؤال سألته لأحد الأصحاب في الاحتفال هو: أذكر لي أهم ساحة في مدينة الرياض، فذكر لي أسماء لساحات لا يؤمها أحد ولا تشكل أهمية كبيرة في الخريطة الذهنية لساكن الرياض، وأكتشف أن مدينة الرياض فيها ساحات كثيرة لكن لا يوجد فيها فضاء احتفالي عام واحد مؤثر ومشكل لشخصية المدينة. قلت له إن المدن عادة ما تعرف بمقدرة فراغاتها على الامتزاج مع المناسبات الاجتماعية الكبرى، وتحويلها إلى مشهد مسرحي يعزز من القيمة الثقافية للمكان، وهذا ما شعرت به في أبها، وقبل ذلك في المنطقة القريبة من بيت البلد في جدة في مهرجان جدة التاريخية، وفي ينبع التاريخية، والعلا القديمة، أثناء انعقاد ملتقى التراث العمراني الوطني الثالث في المدينةالمنورة. نستطيع إذا أن نصنع الفضاء الاحتفالي ونملك المقدرة على تحويل المدينة إلى كائن حي يفتح قلبه وذراعية للجميع. الرقصات والأهازيج الشعبية التي امتزجت بالألوان العسيرية في أبها فتحت عيني على ظاهرة عامة لم أفكر فيها من قبل، وهي كيف تطورت تلك الأهازيج وفي أي أمكنة كانت تقام، وهذا جعلني أعيد التفكير في الفضاء العام في القرى والبلدات التاريخية، ففي الباحة مثلا أذكر أنني شاهدت في الجنادرية كيف تتم الرقصات الشعبية، وكيف تتشكل دوائر الراقصين، ومن الضروري أن تكون هناك أمكنة تابعة للمدينة يتم فيها هذا اللون من الاحتفال، وفي وادي الدواسر شاهدت كيف تستخدم ساحة قصر الإمارة لأداء العرضة، وفي قرى الطائف هناك ساحة هي الفضاء العام الذي يتم استقبال الضيوف فيه ويحتفل بهم، وأذكر أنا شخصيا أن الأعراس كانت تقام في البراحات في مدينة الهفوف وكانت تفرش البسط للرجال وتقام الرقصات الشعبية في الساحات بين المنازل، وللنساء في سطح أكبر بيت في "الفريج". الأهازيج والرقصات الشعبية هي مكون "مكاني" بالدرجة الأولى، والفضاء الاجتماعي العام في قرانا التاريخية كان يتشكل لاستيعاب "ثقافة الاحتفال" بأسلوب يعزز من الانتماء والارتباط بهذا المكان. المتعة التي شعرت بها في احتفال أبها هي أنني صرت أتخيل كل رقصة في محيطها المكاني، وأتخيل لو عادت الحياة من جديد لهذه الأمكنة. الرسالة التي حاول أن يبعث بها حفل فعاليات الصيف هي أن "المكان المعاصر" يملك كثيراً، الذي يمكن أن يساهم به في بناء شخصيته العمرانية الانسانية، فقد كان الجزء الآخر من الاستعراض معاصراً، ظهر فيه شباب يتزلقون على دراجات، وآخرون يستخدمون سيارات وغيرها من مظاهر معاصرة تؤكد أن المدينة فضاء متجدد، فالمكان الاحتفالي يوحي بالتاريخ والتراث، لكنه كان في حلته التقنية المعاصرة يؤكد أن المدينة بكل أمكاناتها قابلة للاحتفال، وأنها تتواصل مع من يعيش فيها طالما أنهم يتواصلون معها، وهو ما يميز الكائنات الحية. في اعتقادي أن المدن تكتسب شخصيتها مع الوقت من خلال رسوخ المكان الاحتفالي في أذهان الناس عبر الزمن، ففي القاهرة احتفالية "الموالد" جزء من احتفالية المدينة، وأذكر أن الدكتور عبدالحليم ابراهيم قدم أطروحته للدكتوراه عن المكان الاحتفالي في القاهرة في جامعة "بيركلي" الأمريكية ومازالت هذه الدراسة تشكل أهمية كبيرة لفهم المكان الثقافي في القاهرة. في لندن الكل يتذكر كرنفال "نوتنج هيل" في شهر اغسطس وفي جنيف يظل الكرنفال أحد أهم عناصر الجذب لهذه المدينة. المعاني التي يكتسبها المكان في الغالب تراكمية، اي: إنها تنمو من خلال الممارسات الانسانية الثقافية التي تحدث في المكان، فليس من المعقول أن يكون هذا المكان متنقلاً ومتغيراً، ونتصور أنه سيبني علاقة مع الناس. ربما هذا ما يجعلنا نبحث عن "المكان التاريخي" كفضاء ثقافي تشكلت فيه الذاكرة الثقافية والانسانية، ونحاول أن نطوعه مكاناً احتفالياً معاصراً ممتداً باستمرار في الماضي، وبشخوصه وأحداثه. ما أتمناه أن يتحول مكان الاحتفال بالصيف في أبها إلى مسرح مفتوح في المدينة، فهو مسرح لا يحتاج إلى مدرجات، ولا أن يكون معزولاً عن الناس بل يجب أن يكون الفضاء الذي يحدث فيه التفاعل الثقافي، وتستعرض فيه المدينة وسكانها أجمل ما يملكون. ما يعزز المكان الاحتفالي في ذاكرة الناس هو "التكرارية" وما أقصده هنا هو وجود أماكن ثابته للاحتفال في مواعيد ثابتة طوال العام، الناس تنتظرها وتستعد لها، ونحن لدينا الأعياد التي يمكن أن تعزز من فكرة المكان وتحولها إلى عنصر ثقافي خلاق، يساهم في بناء الشخصية العمرانية والثقافية للمدينة، لكننا نحتاج إلى البحث بهدوء عما يعزز علاقة الناس بأمكنتهم، فهذه العلاقة هي التي يعول عليها في بناء الشخصية المكانية التي تفتقر لها كل مدننا من دون استثناء.