كانت قريتنا تتسنم ربوة جبلية بيوتها تتثاءب عند مغرب كل يوم، النوافذ تتعانق مبكراً، والسكون يسود مفاصلها عدا أصوات ناي يتسرب من بين أعمدة حديدية دهنت بمادة القطران، ليلاحق ضوء الأتريك الذي يشع في الفضاء الغربي نحو شعاب منحدرة تمتلئ بالتين الشوكي. ينساح موال - خضران - بين ثنايا صوت الناي، ويستمر يطلق أصواتاً من حنجرته المتعبة حتى تصاب بالوهن، عندها تتراخى يداه ليضع أنبوب الناي الخشبي، ويطرح جسده على طراحة الرين ويتقلب بضيق على فراشه حتى تطل الشمس من ركنها الشرقي على أرجاء الكون ومنه القرية. في الفجر تبدأ الحركة والأصوات تتناثر بين الشعاب.. وخضران يكتفي بفتح شطر النافذة التي تطل على الوادي ليرى بوضوح قطيفة خضراء غطت جسد الجبل، كانت وقتها عيدان الذرة ترقص بفرح مع نسيم الصباح. مرجمة (عيشة) تلاحق الطيور الصغيرة. تذكر كلمة قاسية قالها والدها: إنه ليس لدينا بنات نزوجها لمجانين، وراح يشهق بالبكاء، في التو انداحت كلمات جمعها على شكل قصيدة أعاد نظمها، وراح يغني.. التفت جانباً ووجد الناي حزيناً، مد يده بحنو بالغ أمسَك الناي ووضعه قريباً من فمه وقبله عدة قبلات، وأعاد وضعه لتسد أصابعه بعض فتحاته، وأصابع أخرى ترتفع بإيقاع منظم ملأ هواء رئتيه بهواء استنشقه من هواء بارد تسرب من النافذة وأخذت أصابعه تتحرك بإيقاع غير منظم لتتناثر أصوات تارة متقطعة وأخرى متواصلة، واستمر ينفخ في جوف الناي، ليزداد صوته وضوحاً للمارة من جوار منزله، سمع خشخشة لأقدام تسير، قفز إلى النافذة؛ ليرى نسوة شدهن الصوت ووقفن يستمعن، راق له ذلك، واقترب من النافذة ليواصل الشدو بالناي، سمع صوتا ينهر النسوة ليتحركن، أطل برأسه وكن وقتها يمشين زرافات إلى الوادي وما زال نثار الصوت الجهوري يملأ الطرقات بكلمات قاسية. توقف عن الشدو، وهم بالتقاط هراوة معلقة في الجدار.. والهبوط من الدرج وضرب ذلك الوجه المجدور. تراجع عن هذه الفكرة وتقدم إلى حلانة صغيرة في جدار المنزل يحتفظ فيها بمشط ومرآة وزجاجة صغيرة بها دهان مرر بأصابعه داخل العلبة وانساحت قطعة بلون سمني، ومسج بأصابعه التي تفيض بالدهان على جبينه نزولاً إلى صدغه وأنفه ولبس ثوبه الأزرق وعمامته البيضاء، وهبط من سلم منزله إلى الساحة الخارجية التي تفضي إلى الوادي. كانت مزرعته الصغيرة مخضرة بنبات البرسيم، جمع عدة حزم، ووضعها على كتفه، ليقدمها وجبة إفطار لثور سدران الذي يحظى بشيء من رعايته، ما إن تسمعه (حمدة) حتى تناديه ليصعد إليها ويتناول كسرة الخبز. عندها يعود إلى منزله الصغير، ويجول بعينيه في المصاطب الزراعية، وما إن يفرغ من التهام فتات الخبز حتى يعود إلى الناي. في ظهيرة هذا اليوم كانت أشعة الشمس باردة في أيام خريفية، الطيور الخضراء بنزق تتماهى في أجواء القرية، ريشها يمتع النظر، وليس من السهولة صيدها، وحتى لو وقعت في يد أحد لا يروق له أكل لحمها؛ فهي جميلة فقط في السماء، فكر باصطياد أحدها وإيداعها صفيحة صغيرة مربعة الشكل، كانت خزاناً لسمن مستورد. بعد أن ثقبها من جوانبها بمسمار حاد، ليسمح له مشاهدة ما بداخلها، ويقدم له الغذاء عبر الفتحات ولا يسمح له بالطيران. أخذ هراوته، ومشى في طرقات القرية وبدأ يسوط الهواء محاولاً صيدها، كان ذلك المشهد مثيراً لضحك أطفال القرية ورجالها، ولم يعر لتلك الكلمات القاسية اهتماماً (المحوا المجنون) بل واصل في تنفيذ خطته بالفعل، تمكن من اصطياد واحد منها بعد أن رماه بحجر وسقط من على غصن الشجرة، لتتمكن أصابعه القوية من مسكه وإيداعه الصفيحة المعدنية المثقبة، شعر بفرح، وجمع فتات الخبز المتبقي وأسقطه من الفتاحات الصغيرة، ليترك للمنقار المدبب حرية الالتقاط، وسكب قليلاً من الماء ليحافظ على حياته. في المساء وضع الصفيحة أمامه، والطائر الأخضر بداخلها، وتناول الناي بهدوء غير مسبوق وبدأ ينفخ. أخذ الصوت ينتشر في أرجاء المنزل، كان الطير يرفرف بجناحيه، وظن أن ذلك نوعا من الرقص، وواصل الشدو حتى الصباح. خرج دون تثاؤب. وهرولت قدماه إلى حقل البرسيم، واقتطف حزمة صغيرة ما زالت تندى برطوبة الصباح. عاد مسرعاً إلى طائره الأخضر نثر عيدان البرسيم من فتحة صغيرة في أعلى الصفيحة كان ينتظر المنقار المدبب أن يلتهم تلك الأوراق الخضراء الصغيرة، إلا أن شيئاً لم يحدث. شعر بضيق وتوتر، لم يتبق من فتات الخبز شيء. لمعت في ذهنه فكرة الحصول على قطعة خبز، تذكر (حمدة) التي تمكث ساعات ليلها الطويل وهي تدهك العجين وتلمها على شكل كرة مفلطحة على صفيح حجري مستو، وتغطيها بغطاء حديدي مجوف، لتردم الجمر والرماد عليها منتظرة رائحتها في فجر اليوم الثاني. قفز من على جدار منزله.. ليسير فوق أسقف حجرية متلاصقة، ليداهم قطعة الخبز وقد تسربت رائحة لذيذة من مساحات صغيرة أسفل الغطاء الحديدي، لتترك حمرتها انطباعاً سارّاً، لسعته حرارة الصاج الحديدي، وإذا بعود لم يحترق بكامله، وأمسك طرف الخبزة ونفضها؛ لتنقلع تاركة رائحة الحياة، غطاها بعمامته وعاد أدراجه من حيث أتى بهدوء؛ ليقع على ركبتيه أمام القفص ويبدأ في تفتيت الخبز ويرميه للطير الذي أحدث منقاره دقاً خفيفاً مع الالتقاط.. بعد أن ملأ فتاتا من الخبز تجويف بطنه.. خرج إلى الوادي وفي يده اليمنى الصفيحة بطائره والأخرى الناي.. وتوقفت قدماه عند بئر كانت النسوة يردن جلب الماء منه لمنازلهن، واقتعد نتوءا صخريا صغيرا بعد أن وضع الصفيحة أمامه وأمسك بأناة الناي، وبدأ يتأمل في الطير الأخضر وشد نظره حلقة الريش السوداء تلك التي تكحل رقبته، وتزداد ألقاً مع أشعة الشمس الصباحية نثر تقاسيم الصباح من جوف الناي.. وأخذ صداه يتوزع في الجبال والشعاب المجاورة. ساعده في ذلك السكون الذي يضرب المكان عدا أصوات السواني وهي تجلب الماء لسقيا المصاطب الزراعية. انداح صوته في أعقاب توقف الناي، ليسري في مفاصل المكان.. شعر بشيء من الحبور واستحسن صوته.. وأخذ يرفع نبرات صوته.. وفوجئ - بصاحب الوجه المجدور ينهره ويأمره بالصمت إلا أن خضران واصل الغناء، لعل قلبه يرق.. وفيما كان مشغولا بالغناء، أمسك بصفيحته ونايه.. وقذف بها في أسفل الوادي وانعطف عليه، وصفعه بيده القاسية كما تعود في مرات سابقة. وقف خضران هذه المرة كالقطة الشرسة ولمح طائره يتدحرج داخل الصفيحة، آلمه المنظر، فانعطف بكامل جسده أمام المجدور الواقف في المنحدر، تخيّل خضران أنه أعظم منه، خصوصاً وأن رأسه يعتليه، وقبل أن يمد المجدور يده. انهالت قبضة يده اليمنى على صدغه ليسقط أرضاً، حاول أن يشد جسده المتهالك من أثر الضربة القوية ليقف، خضران أعقبه برفسة قوية، ليتدحرج أمامه، راق له ذلك واستمر يلكمه ويرفسه بنشوة عارمة وشجاعة اقتطفها من نظرات النسوة اللواتي يشاهدن المنظر باندهاش. وجئن سراعا ونزعن يدي خضران عن رقبته إذ كان في لحظتها في هياج كامل، كانت كلمات الشتم تتناثر في مساحة أذنيه، لم يعرها أدنى اهتمام، وأطلق قدميه نحو الصفيحة ليشاهد طائره الأخضر يرف بجناحيه الملون دون أن يتأذى، أما الناي فبحث عنه ولم يجده، عاد إلى منزله وهو يتوعد الجميع بالضرب في حالة الاقتراب من طائره، وشعر في الليلة الثانية بغيظ كبير، واكتفى بالغناء والنظر إلى الطير الأخضر الذي استمر ينقر في قاع الصفيحة لالتقاط فتات الخبز. موجة برد قارسة داهمت القرية، وأخذ خضران غطاء صوفيا مهملا ولفه حول الصفيحة واضطجع ونام بقرب طائره. أهل القرية افتقدوا صوت الناي.. وافتقدوا المواويل الصباحية التي تنطلق من النافذة الغربية وقبل أذان المغرب وجدوا خضران مضرجاً في دمائه.. والصفيحة مليئة بالفراغ.