أدار المرجمة عدة دورات في الفضاء القريب من رأسه وأفلت الخيط بقوة لتنطلق أحجاراً صغيرة كالسهام العشوائية صوب حقل الذرة طاردة بصوتها الطيور الصغيرة الغبراء التي عادة تهاجم المزارع في مثل هذا الموسم من كل عام، وبينما كان منهمكاً في التقاط الأحجار وإرسال القذائف الصغيرة إذا بصوت يتسرب من جوف الحقل، استمع لهذا الصوت الغريب، وانحدر بحذر ليرى مصدر الصوت لم يجد أثراً سوى عيدان القصب الطويلة والمتجاورة بأوراقها الخضراء، وأثناء تجواله وسط الحقل في محاولة لتقصي مصدر الصوت انهالت الطيور الصغيرة لتنقر بمناقيرها المدببة بنهم حبوب الذرة الناضجة ليعود مسرعاً حاملاً المرجمة مطلقاً الأحجار مصدرة الأصوات التي تفزع منها تلك الطيور الهائمة فوق سماء المزرعة، في اليوم الثاني أرهف سمعه لذلك الصوت ولم ير أي حركة تنم عن وجود شيء إلا أنه في هذه المرة سمع صرخة دوت في جوف الحقل دب الخوف في أنحاء جسده وبقي واقفاً واجماً متسائلاً من يا ترى؟ ولم اختار هذا الحقل؟ كانت جدته قد روت له حكاية ما زالت تقطر في أذنيه كماء الشتاء «كان يا ما كان في قديم الزمان» امرأة عجوز تجوب الأودية وتسكن الكهوف تلبس أسمالاً بالية شعرها منفوش ووجها أجعد لها أصابع غليظة تنتهي بأظافر حادة كالسكاكين إذا رأت صبياً تحتال عليه وتوقعه في فخها ولا يكون له النجاة تأسره في كهفها مقيدة رجليه آمرة إياه لخدمتها متى رغبت، ظل واجماً وهو يتذكر جدته وهي تسرد تلك الحكاية ولم ينس لسانها وهي تلوك الكلمات بتثاقل، وبقيت المرجمة في يده لا يقوى على تحريكها، عاد إلى بيته خائفاً قلقاً. يتمنى وجود جدته لتكمل الحكاية ليسألها عن تلك العجوز ما أن طوح برأسه على المخدة حتى شاهد ما يفزعه امرأة طويلة لديها نابان حادان تأخذ من شكل الذئب في جسد آدمي تخرج بشراسة من جوف الجبل الذي ينتصب بجوار القرية لتنتهي تلك الليلة برجفة جسد صغير ونبض قلب متزايد.. الشمس رمت بأشعتها البيضاء في الوادي الأخضر وراحت الطيور تتماهى في جنبات الوادي، سرح الرعاة بأغنامهم والمزارعون يرقبون حقولهم لتُشكل المراجم أصوات أشبه بأصوات البندق حين تطلق الرصاص فيما بقيت مزرعته باباً مشرعاً للطيور التي تنقر بنهم حبوب الذرة الصفراء فيما يقف بجسم مرتخ فوق صخرة مترقباً خروج تلك العجوز الذئب من جوف الجبل الواقف أمامه، عادت حكاية جدته وكأنها فلم سينمائي، العجوز جمعت أطفال القرية وحبستهم في كهفها واستبدت بهم ضرباً وعضاً وتعذيباً. استيقظ من نومه فزعاً وكانت أمه تناديه بأن يحمل حقيبته ليذهب للمدرسة، حملها بمشقة فوق رأسه، وهلع توغل بين أضلعه لقد أكلت الطيور حبوب الذرة وما زالت العجوز تعوي بصوت ذئبي وكأنها تستعجل وضع أظافرها الحادة في أسفل رقبته، فيما جدته نائمة تحت التراب في مقبرة هامدة وغير بعيدة عن مرمى مرجمة. ** **