لم تكن طفولة الشيخ الجليل عبدالكريم بن عبدالعزيز الجهيمان تنبئ أبداً أن شخصية صاحبها ستكون بهذا العمق الثقافي، الذي ما زلنا نحتفي به حتى اليوم، فقد انفصل والده عن والدته قبل أن يعي ما حوله، وعاش متنقلاً بين والده وأعمامه في قرية «غسلة»، وبين والدته وأخواله في قرية «الوقف»، وقد جرت العادة أن من يعيش مرحلة الطفولة، من دون وجود كيان أُسري سليم، عادة ما يكون حظه من التعليم قليلاً، لأنه لا يحظى برعاية أسرية كاملة، لكنه أثبت خطأ تلك النظرية كلياً. ولد الشيخ العام 1333ه وفِي رواية 1330 هجري، في قرية «غسلة» بمنطقة الوشم، ونشأ في «القرائن»، وهما بلدتان متجاورتان قريبتان من «شقراء» وسط المملكة، التي تبعد نحو 190 كلم عن العاصمة الرياض. وقد حدث بصغره (كان عمره 5 سنوات تقريباً) ما يشبه الحاصل الآن من وباء كورونا، فقد اجتاح منطقة «نجد» حينها وباء الكوليرا، وبسببه حدثت وفيات عدة، وسُميت السنة التي تساقط فيها الناس موتى بسبب الوباء «سنة الرحمة» من كثرة ما كان يُقال: رحمه الله، كلما سمع الناس بوفاة أحد. أنهى الجهيمان دراسته في الكُتاب وتوجه إلى الرياض فدرس النحو، وعلم الفرائض، وعلم الفقه على يد الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-، ثم غادر إلى مكةالمكرمة والتحق بالمعهد العلمي، وتخرج منه العام 1351ه، وهي السنة نفسها التي وحدّ فيها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أرجاء البلاد تحت مسمى المملكة العربية السعودية، ثم عمل بداية بالتدريس، ثم انكب على تأليف المقررات المدرسية في الفقه والحديث والمطالعة والتهذيب والتوحيد، ثم انتدب لإنشاء المدرسة الأولى ببلدة الخرج، ثم انتقل للرياض لتدريس أبناء الملك سعود -رحمه الله-، ثم تولى تدريس أبناء الأمير عبدالله بن عبدالرحمن -رحمه الله-. ثم تحول بعد ذلك إلى الصحافة، وكان أول من عني بفن الكتابة للطفل، من جيل الرواد، حيث أسس «مكتبة الطفل في الجزيرة العربية» وأصدر عشر قصص للطفل، وتلتها «مكتبة أشبال العرب»، كما أصدر عشر قصص مماثلة. الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية في الصحافة اهتم الشيخ بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية عبر «أخبار الظهران» ثم الكتابة في صحيفة «اليمامة» مع صديقه حمد الجاسر، وصحيفة «القصيم»، وطالب بإنشاء وزارة تعنى بالشؤون الاجتماعية، ودعا لقيام جمعيات وطنية في المناطق لمساعدة الفلاح في الإنتاج وتصريف إنتاجه، كما طالب بوضع تعاليم وقوانين لحماية التاجر من الكساد، والمستهلك من الاستغلال، وقد ترك كتباً جمع فيها مقالاته وكتاباته الصحافية، مثل كتاب «دخان ولهب»، الذي ضم مقالاته المنشورة في صحيفة «أخبار الظهران»، وكتاب «أين الطريق؟» وجمع فيه ما نشره في صحيفة «اليمامة»، وكتابه «آراء فرد من الشعب» الذي ضم ما نشره بصحيفة «القصيم»، وكتاب «أحداث وأحاديث»، وضم ما نشره من مقالات بالصحف المحلية. الرحلات وكان مما غذى ثقافة الراحل تلك الرحلات التي زار من خلالها معظم البلدان العربية، ودول الخليج، ودول المغرب العربي، حيث انطلق بسيارة من القاهرة حتى طنجة ماراً بليبيا وتونس والجزائر، ثم قام برحلة لأوروبا، زار فيها فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا، وأُعجب جداً بباريس فألف فيها كتاباً بعنوان: «من ذكريات باريس». ثم رحلة أخرى استعرضها في كتابه: «دورة مع الشمس» انطلق فيها من الرياض إلى لندن وأميركا، وزار جزر الهاواي واليابان والصين وهونغ كونغ. ثم انتهى بالبحرين. الموروث الشعبي أما سر تميزه وتفرده أكثر فيرجع لاهتمامه بالموروث الشعبي المهدد بالنسيان، والذي جمعه من أفواه الناس، وهو عبارة عن حكايات الجدات ومجالس السمر، وجمعها في خمس مجلدات من الحكايات وسماه الأساطير الشعبية، وعشر مجلدات من الأمثال في قلب جزيرة العرب، واختيرت منها مجموعة تُرجمت إلى اللغة الروسية، وصدرت في موسكو تحت عنوان «حكايات عربية عام 1999م»، قام بترجمتها د. شاه رستم شاه موساروف. كرمه واهتمامه بالتعليم يذكر الدكتور حمود البدر أن الشيخ عبدالكريم الجهيمان قدم له (عندما كان البدر وكيلاً لجامعة الملك سعود) مبلغ 200 ألف ريال لمساعدة الطلبة الذين تعوقهم أحوالهم المادية عن مواصلة دراستهم، و300 ألف ريال لمركز الأبحاث بالجامعة. كما تبرع لجمعية أصدقاء المرضى، وجمعية الأطفال المعوقين، وشارك في تأسيس «مركز المسنين» (مركز الأمير سلمان الاجتماعي)، وبناء مدرسة ابتدائية ومتوسطة في الخرج، سميت باسمه. مكتبة الجهيمان في سوق حليوة التراثي تُوفي الجهيمان (أبو سهيل) وترك إرثاً ضخماً من المؤلفات، ومثلما أفنى عمره في حفظ الموروث الشعبي سخر الله له من أهله ومحبيه من يجمع تراثه الثقافي، ويشيد مكتبة خاصة به في سوق حليوة التراثي بمدينة شقراء (بجوار متحف شقراء)، يقول عنها أمينها المكلف أ. إبراهيم اليوسف: أُقيمت مكتبة الأديب عبد الكريم الجهيمان بجهود ذاتية من أبنائه: سهيل وناصر، وبناته، ومحبيه، ورواد ديوانيته، خاصة الأستاذ محمد بن عبدالله الحسيني، والذي له الفضل بعد الله في قيام هذه المكتبة التي تُخلّد ذكر الأديب والصحفي والباحث والمربي والشاعر، والموسوعي، وقد ساهم في ظهورها للنور كل من الأستاذ: عادل بن عبدالله البواردي محافظ محافظة شقراء، والأستاذ: عبدالرحمن بن إبراهيم السبيهين، رئيس المجلس البلدي بشقراء، والأستاذ: عبدالرحمن بن إبراهيم البطين، مدير متحف شقراء، وقد طلب مني الأستاذ والصديق محمد الحسيني تولي الإشراف عليها، وترتيبها، وفتحها للزوار، وقد توليت تصنيفها وفهرستها، وتركيب الكتب بالدواليب، والصور في براويز، وتعليقها على جدران المكتبة، ووضع الدروع والهدايا برفوف خاصة بها، كل ذلك متطوعاً تلبية لرغبة الزميل محمد، وخدمة لمدينة شقراء، وللأديب الجهيمان -رحمه الله- وللأدب والثقافة، وخدمة لجمهور الزائرين لبلدة شقراء القديمة والتراثية وسوق حليوة وقد ضمت المكتبة مؤلفات الأديب وعددها (11) إصداراً هي: * الأساطير الشعبية من قلب الجزيرة العربية - 5 أجزاء. * الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب - 10 أجزاء. * مجموعة كتب تشمل: (أين الطريق)، (آراء فرد من الشعب)، (دخان ولهب)، (ذكريات باريس)، (دورة مع الشمس)، (رسائل لها تاريخ)، (مذكرات وذكريات من حياتي)، (أحاديث وأحداث). * ديوان شعر باسم (خفقات قلب). * نحو (20) قصة من قصص الأطفال، صدرت عن دار أشبال العرب، التي أسسها الأديب الجهيمان. * جزء من مكتبته الخاصة التي كان يُطالع فيها (بعد أن تبرع في حياته بالجزء الكبير منها لجامعة الملك سعود بالرياض). * العديد من متعلقاته الشخصية، ومعظم الدروع والهدايا التي مُنِحت له من بعض الجهات الحكومية والخاصة والجامعات والأندية الأدبية والرياضية والجمعيات، والعديد من الصور بمراحل عمره المختلفة، والمناسبات الخاصة والعامة. وعلق د. عبد اللطيف الحميد، صاحب دار تراث الوشم، أستاذ التاريخ بجامعة الإمام، بقوله: في الحقيقة تُشكر أسرة الأديب الراحل عبدالكريم الجهيمان، ويُشكر محبوه الذين آلو على أنفسهم خدمة تراثه وإحياء ذكره ونشر فكره وإبداعه، ومن أمثلة ذلك نقل مكتبته الخاصة ومقتنياته من الرياض (حيث عاش جل حياته) إلى سوق حليوة التراثي، وقد تبين بحمد الله نجاح تلك الخطوة عملياً، من خلال ما نراه من توافد الكثير والكثير إلى هذه المكتبة الخاصة العريقة، المرتبطة برمز أدبي كبير، في سماء الوطن. لمحة وفاء وعرفان ويقول أ. عبدالرحمن السبيهين رئيس المجلس البلدي لمحافظة شقراء،: إن الأديب الموسوعي أ. عبدالكريم الجهيمان قامة أثرت الساحة الثقافية، والصحفية السعودية، بإرث ثقافي وصحفي كبير عبر أكثر من ثمانين عاماً، وبعد رحيله ترك لنا هذا الإرث لتتناقله الأجيال، وتداول كتابته الصحفية وقراءة مؤلفاته وقصصه، أما تأسيس مكتبة الجهيمان فكان بمثابة الوفاء والعرفان لهذا الأديب، ولتصبح محط زيارات الباحثين والمهتمين بأدبه، والزوار من كل مكان، وكأننا نسمع «أبا سهيل» -رحمه الله- يردد في جنبات هذه المكتبة أبياته المشهورة: كم شاعراً تملأ الدنيا مشاعره .. بها وكم عالم بالدين والسِيرِ وكم أديب إذا خطت أنامله .. أزرت معانيه بالألماس والدرر هذه المكتبة هي اللبنة الأولى في تخليد الإرث الثقافي والصحفي لأبي سهيل، ونتطلع إلى أن تتحول إلى مركز ثقافي ومنارة علمية، تتزين بها محافظة شقراء. مبادرة كريمة ومن جانبه يرى أ. حمد المالك (مدير إدارة البوابة الإلكترونية بمكتبة الملك فهد الوطنية - عضو هيئة تأسيس المكتبة) أن المكتبة تمثل إحدى المبادرات التي قام بها أصدقاؤه الأوفياء عرفاناً منهم، وتقديراً لهذه الشخصية الرائدة، التي كان لها إسهامات بارزة في بلادنا الغالية، وهي جزء من المشروعات الثقافية التي يقدمها أبناء هذا الوطن لتعريف الأجيال القادمة برواده وشخصياته البارزة. ويقول: لا ننسى الأديب عبد الكريم الجهيمان ودوره الريادي في التعليم والثقافة والأدب في بلدنا الغالي، واهتمامه -رحمه الله- الواسع بنشر المعرفة والثقافة بين أفراد المجتمع، حيث قام في فترات من حياته بإهداء مكتبته الخاصة العامرة بالكتب النادرة والوثائق المهمة إلى عدد من المكتبات، من بينها مكتبة الملك فهد الوطنية، التي أهداها وثائق شخصية أعتبرها من المجموعات المهمة التي تؤرخ لعلم من أعلامنا الرواد. وأقدم الشكر الجزيل لكل من ساهم في إنجاح هذه المبادرة الكريمة، وأخص بالشكر أهالي وأعيان محافظة شقراء على اهتمامهم وحرصهم على إبراز هذه الشخصية الرائدة، التي وُلدت وعاشت طفولتها بين أسوار هذه المحافظة العريقة. الأديب عبدالكريم الجهيمان مكتبة الجهيمان في سوق حليوة التراثي من إصدارات الجهيمان