عبدالعزيز الأحيدب - رحمه الله -.. من أوائل من دخل سلك الشرطة في الرياض في وقت مبكر، وذلك العام 1352ه، واستمر في هذه الوظيفة حتى تقاعد، عاصر عدة ملوك لهذا الوطن أولهم الملك المؤسس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ثم الملك سعود - رحمه الله - ثم الملك فيصل - رحمه الله - وتقاعد في عهده، وعاصر أيضاً الملك خالد والملك فهد - رحمهما الل -، فهو شخصية مخضرمة عاصرت تاريخ الشرطة في الرياض والبدايات الأولى والنواة البكر لهذه المؤسسة التي استحدثت في عهد الملك عبدالعزيز ثم تطورت مع مرور الزمن، وهناك جانب من جوانب حياة هذا العسكري ألا وهو حبه للأدب العربي والشعبي، وكذلك التاريخ، فهو قد شارك فيه وألّف عدة مؤلفات منتقاة من الأدب العربي القديم والشعبي؛ فهو من المؤلفين السعوديين القدامى، وله مؤلفات انتشرت بين الناس كانت ممتعة ومسلية وخفيفة الظل انتقاها من كتب الأدب القديمة، وهي مختارات من قارئ ذي ذائقة طريفة، فكان قلمه يصطاد هذه الشوارد والفوائد الأدبية من خلال ما يقرأ ويطالع، فكان تقاعده مفيداً له إذ استغله في القراءة، وهو يرى أنه مفيد للقراء عامة من مصنفات جمعها وإلى مسيرته في الحياة. ولد عبدالعزيز بن محمد الأحيدب العام 1333ه، كما في ترجمته في كتابه (الممتاز من الأحاجي والألغاز) التي كتبها هاشم محمد سعيد دفتردار مقدماً لهذا الكتاب، حيث يقول عبدالعزيز الأحيدب في سيرته التي كتبها بخطه قبل وفاته بسنوات: "ولدت في جلاجل من قرى سدير ونشأت بين والدي وأخوتي وكان أبي مزارعاً"، وأكمل: "فلما بلغ عمري ثمانية أعوام أدخلني والدي في مدرسة غير حكومية بل غرفة أخرجها المطوع من مسكنه وجعل بابها على الشارع". من هنا بدأ الاحيدب يدرس القرآن الكريم على يد هذا المدرس، وقد وصف كيفية التدريس في هذه المدرسة - الكتاتيب - مستعيد أيام طفولته وحياته في جلاجل، وقد استرسل - رحمه الله - في صنع الحبر الذي تكتب به الآيات القرآنية في اللوح ثم غسله بعد الحفظ. إلى الدلم ويروي العسكري القيادي والأديب عبدالعزيز الأحيدب رحلة والده إلى الدلم وتأسيس مزرعة هناك في وادي ماوان الغزير بالمياه وتربته خصبة للزراعة، وقد ترك أولاده في جلاجل ليقوموا بدلاً عنه بالفلاحة التي كان فيها والده من قبل، وبعد مكوث والده عاماً في الدلم رجع إلى جلاجل، وقد اختار الأحيدب أن يرافق والده إلى مزرعته في الدلم، وقد رأى الفرق الكبير بين مشقة الزراعة في جلاجل وسهولتها في ماوان، يقول: «وجدت الفلاحة لا تكلف كثيراً، وقد عملنا على العين - أي عين ماوان - بركة (حوض كبير) لجمع الماء»، ثم إن الأحيدب ذاك الشاب الصغير كان عمره 14 عاماً جعله والده لوحده في هذه المزرعة، والوالد قد ذهب لقضاء بعض اللوازم والأغراض، فلا بد إذاً أن يتسلل الخوف إلى نفس هذا الشاب وبالذات في الليل، فلا كهرباء ولا إضاءة ولا أنيس، يصوِّر هذا الموقف قائلاً: «فجلست سبعة أيام - حتى إني من الوحدة والوحشة لا أشتهي الأكل، فإذا مر بي عابر سبيل وما أقلهم ترجوته أن يبقى عندي ضيفاً ولو يوماً واحداً فلم يوافق، كان مسكني في غرفة بجانب العين أنام في سطحها وطول ارتفاعها مترين، وقد جعلنا أمامها عريشا من جريد النخل يظلل قربة الماء عن الشمس ونجلس فيه، فالعين يردها سباع في الليل؛ لأن ما هناك ماء غيرها في ذلك الوادي، وأسمع في الليل تدحرج الحجارة من الجبل ومعي بندقية مقمع فيها رصاصة واحدة»، ويكمل: «أحسن شيء لسلامتي أن أنام على الجريد أفضل من السطح، حيث إذا أتاني سبع من الليل سمعت مشيه على الجريد وأرميه قبل أن يصل إليّ، ومع كثرة التحرك من لدغ البعوض ابتعد الجريد بعضه عن بعض وسقطت وكان تحتي مهباش منحوت من الصخر فوافق سقوطي عليه وانقطع مني النسم - أي التنفس - وكنت أفحص الأرض بأقدامي من شدة الألم فرجع عليّ التنفس بعد أن أشرفت على الموت، فصممت على عدم البقاء في هذا المكان وبعد سبعة أيام حضر والدي»، بعد هذه الحادثة طلب من والده الذهاب إلى جلاجل وقرر المكوث هناك. لقمة عيش وبعدما استقر عبدالعزيز الأحيدب بجلاجل قرر الرحيل إلى العراق، حيث إن أخاه الكبير إبراهيم كان قد ذهب إلى البصرة لطلب الرزق، البداية كانت إلى الزبير لنفس الغرض الذي من أجله سافر أخوه، وكان عم عبدالعزيز الأحيدب عبدالرحمن أحد تجار الزبير، فنزل عنده ضيفا، فعمل في الزبير في الزراعة، ثم رحل إلى البصرة وعمل هناك، وقد أصيب بمرض الملاريا في البصرة، وكان أخوه إبراهيم كذلك في البصرة، يقول الأحيدب: «ثم مرضت بمرض الملاريا وطلبت من أخي إبراهيم العودة إلى نجد فوافق ورحلت في العام 1352ه». وظيفة الشرطة وبعد هذه الرحلات لأجل لقمة العيش والجري وراء الكسب من الدلم إلى الزبير والبصرة ثم بعد ذلك إلى الرياض وكلّه لأجل القوت، رحل عبدالعزيز الأحيدب إلى الرياض للعمل فيها، ولم يدر بخلده يدخل سلك الشرطة والعسكرية، فعمل في الرياض في أعمال حرة وبعد مدة وجيزة دخل شرطة الرياض وكان رئيسها آنذاك الشيخ محمد العطيشان وأخوه الشيخ تركي العطيشان نائباً له، فقبل في الشرطة، وكان مقر عمله قصر المصمك، وفي أثناء عمله بالمصمك شرطياً تاقت نفسه للتزود من التعليم وإجادة قراءة القرآن الكريم ودراسة مبادئ النحو والقواعد - كما يروي في النبذة التي كتبها - يقول - رحمه الله - عن هذه المرحلة من حياته: «بدأت تعلم الكتابة بكتابة بعض السور من المفصل، وصرت أعلم زملائي في الشرطة الكتابة، وكان عندي رغبة قوية في تعلم العلم بأنواعه، وكنت أحضر المحاضرات التي يلقيها العلماء في المساجد من آل الشيخ وغيرهم، ثم تلقيت دراسات في اللغة العربية وتفسير القرآن الكريم والأحاديث الشريفة على جملة من العلماء منهم العلامة عبدالله بن عبدالعزيز النصيبي إمام مسجد بالقرب من عملي، واقتنيت كثيرا من الكتب الدينية والأدبية وغيرها من الكتب النافعة، وكنت مواظباً على القراءة منها بلا ملل ولا فتور واختصر ما فيها من الأشياء النافعة». كفاح وعصامية وكانت حياة عبدالعزيز الأحيدب هذا العسكري الذي بدأ السلّم العسكري جندياً بشرطة الرياض براتب عشرين ريالا في الشهر كفاح وعصامية، منذ أن خرج إلى الدنيا وهو يلاحق الكسب الحلال مزارعاً في الدلموالعراق، وعلّم نفسه بنفسه الكتابة وأجادها وكانت لديه بعض المبادئ اليسيرة قد لقنه إياها مدرس الكتاتيب بجلاجل، ومع ذلك فهو قد طوّر ذاته في ذاك الزمن وحضر مجالس العلماء واستمع إليهم ووُفِّق إلى أحد طلبة العلم ولازمه بمدينة الرياض، وهو كذلك لم ينسَ زملاءه بالشرطة فعلمهم القراءة والكتابة، فكان يحب نشر التعلم، وقد التقى بالأديب الكبير الشهير اللغوي والصحفي أحمد عطار - رحمه الله - حينما كان عطارا في الرياض، وأثنى عطار على خلق الأحيدب وتعامله الطيب، وكان الأحيدب عنده ديوان شعر جمعه - لعله ديوان إبراهيم بن جعيثن - واطلع عليه عطار - ذكر ذلك عطار في أحد كتبه. ولم يتوقف الأحيدب عن مواصلة القراءة من كتب الأدب طيلة عمله بالشرطة، وتكونت لديه حصيلة جيّدة من هذه الكتب، وقد نال دبلوم الصحافة من مصر بالمراسلة وهو على رأس العمل، ولعله من أوائل السعوديين الذين عملوا بالشرطة ونالوا دبلوم الصحافة. 300 ريال وترقى عبدالعزيز الأحيدب خلال عمله بالشرطة وزاد راتبه، يقول - رحمه الله - في نبذته: «كانت رتبتي عريفا براتب 20 ريالا، ثم رُقيت «شاويش» وأصبح راتبي 40 ريالاً، وعُينت مفتشاً على طريق الحج، ومقر عملي مخيم في قرية الجبيلة، فلما انتهى موسم الحج عدت إلى عملي مراقبا للسيارات المسافرة إلى الرياض والواردة إليه «نقطة تفتيش» مع تحمل مسؤولية مضيف ثليم الذي فتحه الملك - أي الملك عبدالعزيز - للبادية في بطحاء الرياض. وفي العام 1363ه تعين علي جميل مديراً لشرطة الرياض، وفي هذا التاريخ صدر قرار بترقية عبدالعزيز الأحيدب رتبتين من نائب إلى وكيل ممتاز والراتب 90 ريالا - كما يروي الأحيدب في نبذته - وهو مبلغ جيّد في وقته قبل ثمانين عاماً، وتعيّن في المنطقة الشرقية، وتنقل بين الخبر والقطيف ورحيمة والرأس مسؤولاً عن الشرطة فيها، ثم عُيِّن مديراً لشرطة السكة الحديد العام 1373ه، واستمر في المنطقة الشرقية حتى العام 1376ه، بعدها انتقل إلى مكةالمكرمة منتدباً، وهكذا تنقل ضابط التفتيش الأحيدب بين عدة مناصب قيادية في الشرطة، بداية كجندي في شرطة الرياض حتى رُقيّ إلى ضابط، فهو شاهد عصر لتاريخ الشرطة، بعد هذا انتقل إلى حائل رئيساً لشرطة حائل حتى العام 1388ه، وفي هذا التاريخ تقاعد عن العمل برتبة زعيم - عميد - بعد خدمة في الشرطة من العام 1352ه، وهي ست وثلاثون عاماً، عُرف عنه الصرامة والقوة والإنجاز في العمل بالشرطة والدقة في سير العمل، وكذلك النزاهة والأمانة والعدل، بحيث لا يحابي أحداً ولا يجامل في العمل، فعمله حساس، لذلك كان ذا كفاءة في عمله لم يعرف عنه إلاّ الإخلاص والقيادية والإنصاف بين زملائه، واحترمه مدراؤه الذين عمل معهم، خاصةً بمدينة الرياض التي كان شاهدا على تطور الشرطة فيها. تفرغ للتأليف وفي العام 1388ه تفرغ عبدالعزيز الأحيدب للقراءة، وإن كان لم يترك القراءة من قبل، لكنه تفرغ لها وأقبل يؤلف ما يراه مناسباً للقراء عامة، وما هو مسلٍ وممتع وطريف، فأخذ ينتقي ويختار ويفيد من مختارات أدبية، ومن مؤلفاته المشهورة التي أصبح لها تداول كثير بين القراء عامة؛ كتابه التحفة واللطيف والمسلي الممتاز (من الأحاجي والألغاز)، لاقى حقيقة سروراً عند من قرأه سواء من الناشئة أو من القرّاء عموماً، فالألغاز محببة إلى النفوس وتشحذ الأذهان وتبعث على التفكير والتأمل، وقد طُبع هذا الكتاب عدة طبعات آخرها في حياة المؤلف العام 1409ه، وهي الطبعة الثالثة، وقد رأيت الشيخ عبدالله بن عقيل - رحمه الله - مصطحباً معه هذا الكتاب في إحدى المناسبات الخاصة التي كان مدعواً إليها، والشيخ عبدالله بن عقيل من هواة طرح الألغاز على جلسائه وتلامذته، وخصوصاً الألغاز اللغوية والفقهية، ومن كتبه المعروفة كتابه عن حياة الملك عبدالعزيز، وقد تداوله القراء وجمع فيه الكثير من المعلومات عن الملك المؤسس، ومن المصنفات الطريفة التي جمعها الأحيدب في كتابه بعنوان (تحفة العقلاء في القهوة والثقلاء)، وهو كتيب عن القهوة وتاريخها وما قيل فيها من أشعار عربية وشعبية، وعن الثقلاء في الأدب العربي، وهو أول كتاب يبحث عن القهوة في الشعر الشعبي، وقد طبع العام 1390ه. سمعة حسنة وجمع عبدالعزيز الأحيدب ديوان صديقه الشاعر إبراهيم بن جعيثن، وله كتاب النكت والطرائف خمسة أجزاء حشد فيه الكثير من الطرائف القديمة من كتب الأدب ومن المجلات الأدبية، وقد راج هذا الكتاب رواجاً جيداً، والمقصود أن عبدالعزيز الأحيدب ألف 13 كتاباً في فنون مختلفة، ومؤلفاته الطابع فيها السلاسة وليست ثقيلة على القارئ فهي كتب شعبية التداول للناس عامة، وبذلك استطاع الأحيدب أن يعرف ما يريده القارئ في ذاك الزمن. وتبقى ذكرى الأحيدب باقية في المكتبة السعودية، بل في تاريخ الشرطة في هذا الوطن، وقد توفي - رحمه الله - العام 1423ه مخلفاً بعد رحيلها ذكراً طيباً وسمعة حسنة، رأيته مرة واحدة عند الراوية الكبير محمد بن يحيى - رحمه الله -، وكانت علاقة الأحيدب بالأدباء جيّدة - كما أخبرني ابنه سعود - حيث كانوا يزورونه في منزله بالرياض، ويلتقي بهم إذا حلوا بالعاصمة، فهو شخصية اجتماعية وراقية، قليل الكلام إلاّ فيما يفيد، رحمه الله وعفا عنه وغفر له، الشكر لسعود الأحيدب على تزويدي بسيرة والده التي كتبها بخطه. من آثار جلاجل والتي وُلد فيها الأحيدب كتاب الممتاز من الأحاجي والألغاز من تأليف الأحيدب مركز شرطة الجبيلة التاريخي حيث عُيّن مفتشاً على طريق الحج الأحيدب كاتباً قصته عندما تركه والده في المزرعة