أُشفِق على وقتِ مَن يُؤْخذون بعبارة "الموسيقى الداخلية" في النص، شعريِّه أَو النثريّ، فيروحون يبحثون عن عبارات يجعلون لها ما ليس فيها، أَو يُؤَوِّلون كاتبها ما لا يقصد، باحثين عن موسيقى ليست أَصلًا في بال الكاتب، كي "يغتبطوا" أَنهم التقطوا هذه "البدعة" المسمَّاة "الموسيقى الداخلية". بدعة؟ طبعًا بدعة. لا أَتصوَّر بيتهوڤن يقول: "ابحثوا في هذه السمفونيَا عن الموسيقى الداخلية". إِن لم يكن بيتهوڤن قادرًا على كتابة عمل سمفوني هو الذي يفرض علينا موسيقاه وميلودياه، فلا كان العمل ولا السمفونيا ولا الميلوديا. عليه أَن يعرف، ببراعته كمؤلِّف، أَيَّ نوتات ينسج فتخلق معًا جملة موسيقية تزغرد بها الآلات فتعطينا موسيقى ساطعة تفرض نغماتها علينا كي نستمتع بالسَماع لا أَن نبحث بين مفاصل السمفونيا عن "ميلوديا خفية" أَو عن "موسيقى داخلية". بدعة؟ طبعًا بدعة. وما يصُحُّ في السمفونيا يَصُحُّ في الشعر عن القصيدة، وفي النثر عن النثيرة. حين ضبَط الخليل بن أَحمد الفراهيدي أَوزان الشعر، لم يفعل كي "يتأَبَّط" النظَّامون الوزن ويَهذُوا به حاسبينه علينا شعرًا لمجرد أَنهم "ركَّبوا" البيت على التفعيلة و"ختموه" بقافية كيفما اتفق، ليكون ما "اجترحوه" شعرًا. لا، أَبدًا. الموسيقى في القصيدة لا تنبع من تتالي المتحرك والساكن في التفعيلة بل من الكلمات ذاتها تلبس تناغمَ حروفٍ متجاورة وسلاسةَ أَلفاظ متتالية تنضبط في التفعيلة فتخلق الموسيقى واضحة ساطعة لا "خفية" ولا "داخلية". عتيقة هي تفعيلات الخليل؟ هذا هراء من يَعجزون عن الإِبداع فيها. ولا أَظن بيتهوڤن كان يقول إِن نوتات "دو-ري-مي" عتيقة يريد أَن يخرج عنها. الأَصل ليس في نغمية التفعلية ولا في وقْع النوتة. التفعيلة أَو النوتة هي ال"ماذا". الأَصل "كيف" نستعمل ال"ماذا". النُواةُ ليست الآلة الموسيقية بل النوتة التي تعزفها الآلة، وليست التفعيلة بل الكلمات التي تؤديها التفعيلة. وما يصُحُّ في القصيدة يصح في النَثيرة: موسيقاها في براعة نسْج كلماتٍ "تغني" بباقة حروف سلسة متتالية تشكّلُ الكلمات. ولا أَقتصر هنا على الحروف داخل الكلمة بل على اختيار الكلمات ذاتها. فما كل كلمة تصلح أَن تدخل في الشعر ولا كل كلمة في القاموس صالحة للاستعمال في النثر. المعيار؟ الاختيار بذَوق وجماليا، لا التحجُّج بأَن هذه الكلمة صحيحة أَو دارجة لمجرد أَنها موجودة في القاموس، كما يُجيز فقهاء اللغة بدعةَ أُحجياتٍ بهلوانية لغوية. بدعة؟ طبعًا بدعة. أَجمل الأَجمل؟ لغةٌ كالوردة: بسيطة، جميلة، موسيقاها تأْرج من بتلاتها بعطر "ساطع"، لا "خفيّ" ولا "داخليّ".