زِرياب، غلامُ أبي إسحاق الموصلي، يضعُ للعود وتره الخامس ليكتمل في صورته المُثلى، رامزا للأمزجة الإنسانية الخمسة، وهو ذاته، يصنع عودا أخفّ من عود أستاذه بثلث الوزن تقريبا، ولمّا يقدّمه أستاذه بين يدي الرشيد العارف بأمور الموسيقى والمقامات، يغني له من لحنه وشعره ما يُذهل الخليفة العباسي فيقول له ما سمعتُ بهذا، فيطلبه ليقرّبه في اليوم التالي، ولكنّ زرياب كان قد خُيّر بين الموت في بغداد أو الارتحال إلى أرض الله بعد أن فطن أستاذه لموهبته الفذّة. تستقبل الأندلس زرياب استقبال الملوك، ويقرّبه الناصر منه فيكون بمثابة وزير الثقافة والفنّ آنذاك، ويحدث ثورة ثقافية وفنية يمتدّ أثرها إلى يومنا هذا، يُذكر في كتب الشرق والغرب أنّ لزرياب فضل ولادة أكثر من ألف مقام، وهو مبدع فنّ «المالوف» الباقي إلى الآن في بلاد المغرب العربي. وقد قيل إنّ الجنّ كانت تلهمه الألحان لتفرّدها، ليس هذا فحسب، بل أسس مدرسة نظامية لتعليم المقامات الأندلسية وتلحين الشعر. كان شاعرا وموسيقيا بارعا، ولكنه لم يكتف بذلك، بل امتدّت براعته لتصل إلى فنون الملبس والمأكل والمشرب، فزرياب الذي ابتدع الضرب على العود بريشة النسر هو ذاته أول من دمج بين لبس الصوف والفراء شتاء، وهو أول من ابتكر تغيير الألوان وفق الفصول في اللباس، فكانت الألوان الزاهية ربيعا، والداكنة شتاء، وخلط القطن بالحرير صيفا، وزرياب أول من أوجد المقبّلات والمشهّيات على المائدة الأندلسية، ومنها أخذت أوروبا ذلك الطقس الرفاهيّ، فإن أكلت «الباراجوس أو الهيليون» مع الخضار المشكلة فاشكر زرياب، وإن قدّمت الحساء في أول طعامك، فله الفضل في ذلك، وإن استمتعت بوجبة اللحم أو الدجاج أو السمك الرئيسة ثم ختمت بفاكهة أو حلوى اللوز والفستق فاعلم أنّ زرياب يبتسم لك بين الأطباق. وهو الذي أفرد للحساء ملعقة خاصة وجعل الشوكة والسكين في الترتيب الذي نعرفه اليوم على المائدة، ومزج بين البلور والزجاج وبين المعدن والخشب في الأكواب، وهو من أوجد فكرة فرش المائدة وتغطيتها بجميل قماش. وزرياب صاحب وصفات لذيذة كالمقليات وبعض الحلويات الماثلة إلى الآن في المطبخ المغربي والإسباني. وامتدّ أثره ليشمل الزينة النسائية والرجالية، كتسريح شعر النساء إلى الأعلى أو ما يعرف ب «الشنيون» وجعل السالف الهلالي على الصدغ، وقصّ مقدّمة الشعر لتغطي الجبين «الفرنشات»، وكذلك ابتكار طرق للعطور وترطيب الجسد وتنظيفه وإزالة الشعر منه، وتهذيب اللحية وحلقها وتحديدها حسب الرغبة. وحتى المشي ورقّة الكلام وتكثيف القماش في أثواب النساء «الكرانيش» كلّ ذلك كان لزرياب الموصلي، هذا الطائر الأسود الذي خرج ليلا من بغداد ودخل الأندلس نهارا كملك، سجّل له التاريخ بصماتٍ في تفاصيل الحياة اليومية المدنيّة التي نعيشها اليوم، بل ويبرع فيها الغرب ونظنّه سبقنا إليها، وهي في أصلها وجه من وجوه حضارة الأندلس الخالدة، والسؤال هو: كم زرياب خطفته الهجرة بعيدا عن بلاده لينتج في بلاد أخرى، وكم موظف مخلص فرّ من تسلّط مديره، وكم طالب خاب أمله بسبب تسلّط معلمه! لكن ليس كل هؤلاء كانوا سعيدي الحظ مثل زرياب ووجدوا ما وجد من فرصة العمر. وقد يلخّص هذا الحال قولهم: زمّار الحيّ لا يطرب، فهل لا بد من ليلة قمراء ليُفتقد البدر؟! المبدعون هم من أكثر الناس حساسية، وتوفير بيئة مناسبة حاضنة لإبداعهم هو ما يجعلهم أكثر إنتاجية براحة وإيجابية، ربما في درس زرياب وغيره كثير من العِبر التي تجعلنا نعيد النظر في أمور بالإبداع وأحوال المبدعين، ونجد طرقا مناسبة لمنحهم حقهم في بيئة صحية للعمل والإبداع.