"الرواية ابنة المدينة".. كم يردد النقاد هذا المصطلح، بوعي وبلا وعي أحيانا، حتى اعتقد بعض الروائيين أن الكتابة عن القرية خطيئة، وأن القرية ليست المكان المناسب للرواية، لكن جوهر المقولة هنا، ليست في عدم الكتابة عن القرية، بل عن النظرة العفوية للأمور والتي ترتبط بالقرية أكثر من المدينة، والرواية عمل لا يحتمل العفوية بشكل كامل. الرواية فن يقدم تطور الرؤية والتلقي قبل تطور المكان، ألا تتكرر في مجالسنا مفردة فلان "قروي".. أي محدود المعرفة بأحوال الحياة! هل هذا مدخل مناسب للحديث عن رائعة العياف؟.. ربما. كتب عبدالله روايته "حفرة إلى السماء" الصادرة قبل شهر تقريبا عن دار مسكيلياني، عن قرية بروح ورؤية حديثة ومتجددة، لم يكن الكاتب الذي تباكى على طيبة القرية وبساطتها، وملأ صفحاتها بالآهات واللوعات؟.. ولعلي أتمهل في ذكر رؤية عبدالله لنهاية القراءة ولنبدأ من الشخصيات. تيماء، سوير، عيسى، فرج، طافي، غيث، ظافر.. وفطوم أخيرا، الناجية من مجهرة، نسج عبدالله شخصيات روايته بعمق، واستطاع إظهار وعيها ولا وعيها عبر القص وحده، نسج بداياتها، وأظهر أزماتها ببراعة، وخرج بشخصيات حية، تيماء ليست مجرد امرأة قروية قوية الفعل فقط، لكنها صلبة بلا عاطفة، بعيدا عن نمط القروية، كذلك كان عيسى، أمام القرية وأكثر الشخصيات الجميلة لولا أن تيماء وابنها فقط هما من كشفا جوانب سلبية من هذه الشخصية، وحتى صاحب المروءة لديه بعض العثرات، كذلك يظهر ظافر الذي جاء للقرية وحاول أن يبدو مثل المبشرين بالعلم والتنوير، وطافي الذي حين قرر العودة لمجهرة كان يعلم من لحظته الأولى أن عودته تعني الموت... غيث، الصبي صاحب الشخصية المركبة، الأشبه بالنبتة الشيطانية رغم براءته الظاهرية، شخصيات حية ذات ثلاثة أبعاد نسجها عبدالله في الرواية، وكلها لقيت مصيرها في مقبرة مجهرة، ما عدا شخصية فطوم التي خرجت من القرية. ماذا عن مجهرة؟.. هل نسج عبدالله جغرافيا المكان لإعادة تشكيل "ماكوندو ماركيز" أو قرى الهند في "أطفال منتصف الليل" بنسيج محلي الهوى؟.. كانت قرية مجهرة تشبه المقبرة الكبيرة، وكأن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه القرية، الواقع الثابت من مختلف أشكال الحياة، مجهرة كانت خاضعة لسلطة العرف وقصص الأسلاف، ولعل الاستسلام لأعراف القرية والمجتمع المغلق يعني الموت، صارت الأساطير والحكايات الغرائبية تفسر المنطق، وتحاول قتل كل الأسئلة التى يطرحها العقل، صارت مجهرة / المقبرة مكان الميلاد بخلاف الموت وقسمت القرية إلى نصفين، وأصبحت مكان الخلاف ومكان دفن الخلافات أيضا. هل كتب عبدالله بكل هذا الحب عن القرية ممجدا القرية وأساطيرها؟ على العكس من ذلك، كانت رواية تحمل خبر موت القرية، تحمل الخبر فقط فلا تنذر ولا تبشر به. كما أن أحداث الرواية تخبرنا أن القرية ليست البساطة والعفوية، بل هي شكل من أشكال الحياة، مليئة باللؤم والتعقيد تماما قبالة المحبة والخير، لربما تكون منبع الخرافات والأساطير حين يغلق ساكنوها نوافذهم، هكذا قدم عبدالله رؤيته بإقناع فني وسرد يقوده الحدث. بالمجمل، رواية عبدالله العياف ناضجة فنيا، تقدم شخصيات حية نسجها عبدالله في الرواية، غاب الراوي عنها، فتبادلت قيادة دفة السرد على مدار الفصول، يخرج لنا كل فصل بمقطوعة "سولو" ونغم مختلف، هذا التعدد في الرؤى أكمل الصورة في الرواية المكتوبة على طريقة الأحجية، مجهرة رواية خارج الزمن لولا بعض الإشارات، لكن مع جودة ونضج النص الفني، لا حاجة للحديث عن الزمان في مجهرة.