رواية «رقصة أم الغيث»، للكاتب عبدالرحمن العكيمي والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت من عام 2010للميلاد؛ رواية تستثمر الأسطورة لتشريح الواقع ونقد أنساقه، متخذة من السرد متكأً يركز على الثنائية الضدية ويوظفها كحيلة لمحاكمة تلك الأنساق، والكشف عما أصاب الحياة من تحول واختلال. ويبرز المكان كبطل أوحد، حيث يرصد السرد وجهين للحياة في المكان نفسه، فهو مكان يتقبل المحو وإعادة الكتابة، مظهراً من خلال الثنائية ما اعترى ذلك المكان من تحولات، وما طرأ عليه من تغيير، فالمكان ينضح الحياة في جنباته زمن الأسطورة، لكنه فقد الحياة، واستنزف زخمها في جزئه التالي، حينما قبل التخلي عن أسطورية شخوصه، وارتهن للواقع السلبي بعد محو الزمن الجميل، وإعادة كتابته في زمن آخر، وواقع مخالف. ففي حين تبدأ الرواية بالحديث عن مجتمع صحراوي مجدب، يمارس طقوساً بدائية، وأسطورية لاستجلاب الحياة، ممثلاً في التعلق بأم الغيث، التي تجلب له ماء الحياة، وتنقذه من القحط؛ وباستجابتها حيث ينهمر المطر على إيقاع خطوات النسوة الراقصة وأهازيجهن المدوية، فتستمر الحياة، ويُنقذ المجتمع من الهلاك، بعد أن كان بين خيارين قاتلين، الموت أو التغريب، إضافة إلى التهديد المحتمل بالفرقة والشتات، لكن الأنثى (الأسطورية ممثلة في أم الغيث، والحقيقية ممثلة في نساء القبيلة اللواتي يمارسن طقوس الرقص)، تنجح في إعادة السِّلْم، واستعادة الوطن، واستمرارية الحياة. وتبدأ القطيعة مع ذلك الجانب الأسطوري في الرواية في جملة محورية تولد دلالات التحول، والقطيعة والانفصال بين الزمنين والحياتين منذ: «اليوم التالي كان الوقت يمضي إلى الظهيرة، عندما جاء ثلاثة رجال تبدو عليهم سمات التدين، كل واحد منهم يحمل فأسه الحادة»، وتدل الألفاظ الواصفة لهم على مصاحبة العنف للفعل الذي يمارسونه من قتل وإحراق، «للشجرة المباركة»، دون طرح مبررات لذلك الفعل، ودون تقديم وجهة نظرهم، أو مساءلتهم عن سبب فعلهم، فينتهي عند هذا الجزء دور الأسطورة (أم الغيث، وشجرة اللوز) ويغيب ذكرها، ويستتبع ذلك، محو الأثر الإيجابي الفاعل من الجانب الأنثوي في حياة المجتمع، وغياب الأسطورة عن المشهد الروائي، لتنتقل بعد ذلك بقليل إلى الحديث عن وقائع المجتمع الحديث، بمكونات وممارسات تتناقض بشكل تام مع روح وحياة الأسطورة، وغياب فعل الحياة واضمحلال قيم التكاتف المجتمعي الذي كنا نراه متحققاً في الجزء الأول من الرواية. وأول مظاهر ذلك التناقض يبدو جلياً في لغة الرواية على المستوى التعبيري، ففي حين كانت الأسطورة موجودة (بالمعنى الفلسفي) فإننا نجدها مؤثرة وفاعلة، نرى أن صياغة لغة الرواية تتسم بالتكثيف اللغوي، والحضور البارز للغة المجازية المكتنزة الحية، وكأنما كانت الأسطورة تنفث الشعرية وتعزز الجمال في ثنايا النص، في حين يخفت ذلك الوهج الشعري للتعبير اللغوي عند الانتقال إلى الجزء الآخر من الرواية، لتغدو معه لغة القص رتيبة، رتابة الواقع المحبَط، وجامدة جمود مشاعر الشخصيات، مفتقدة للقيمة الشعرية والجمالية. وما يؤكد بطولة المكان هو ذلك القطع على مستوى سياق القص إذ يوقف الكاتب مسار تسلسل الحدث الفعلي والانفعالي، لصالح وصف بئر هداج، وما جاورها من مناطق كانت مسرحاً لأحداث الرواية، يتعزز ذلك القطع بالانتقال المفاجئ للواقع الحالي، للحديث عن شخوص لا يمتون بعلاقة للشخوص السابقة، ولم يرد لهم ذكر ليهيئ القاري لذلك الانتقال، ويبدأ هذا الجزء بعبارة لافتة مقطوعة السياق عما سبقها على لسان إحدى الشخصيات الجديدة: «يا رب يأتينا الطوفان الموعود ويخلِّصنا من هذه الحياة» لتؤسس لذاكرة جديدة تؤكد وعيها بسلبية الواقع الذي لا يستحق سوى الدعاء بالخلاص منه. المظهر الثاني للتضاد يبرز من خلال المقارنة بين الجزأين، ومن خلال تأكيد حضور الأنثى، كفاعل في المجتمع القديم، ومنفعل سلبي في المجتمع الحديث، ففي زمن الأسطورة يتجلى الحضور بإيجابية وفاعلية في المجتمع، حيث تقود الأنثى (أم دحام) طقوس الاستمطار، بمعية نساء القبيلة، (يقتصر الرقص مع أم الغيث على النساء)، وينجحن في استجلاب الحياة، واستنزال الغيث، الذي به تعمر الأرض، وتغدو القيمة الرمزية لرفع مجسم (أم الغيث) بأيدي النساء ذات دلالة قوية لقيادية الأنثى وحمل لواء إنتاج، وإعادة إنتاج الحياة، في حين تظهر المرأة بصورة مغايرة تماماً في الواقع الحديث، البين من خلال أحداث الجزء الثاني من الرواية، فنجد أم حنان لا يرضيها واقعها، حيث تستفتح ظهورها بعبارة تمني الهلاك، وزوال الحياة، ثم مع استمرارية حضورها على صفحات الرواية نجده ذا فاعلية سلبية قاتلة، فهي تسعى جاهدة لقطع الحياة، وتحقيق أمنية الهلاك، من خلال العمل على إخصاء (سالم)، في حين أن حنان (المعلمة)، التي يفترض أنها تمتلك شروط الفاعلية في (التعلم، وتعليم الطالبات، بالإضافة إلى تخصصها كمعلمة لغة عربية، حيث تغدو اللغة مجلى للهوية، ومعادلا للإدراك وتفسير الواقع والتعاطي معه)- لكنها تخفق في تحقيق أي فعل إيجابي ومؤثر، وتنحو إلى الاستكانة، والمسالمة، تغدو فاقدة للإرادة والقدرة، حيث يرد على لسانها عبارة تؤكد هذه الدلالة،(ليس ثمة اعتراض على قدر الله، هذا هو النصيب)، ثم إنها لا تقوم بأي فعل من شأنه تغيير ذلك القدر. وثمة وجهان للمقارنة من خلال حضور الأنثى، وفاعليتها في المجتمع، ففي حين كان كل (عزام زوج العنود، وسالم زوج نوف)، يعانيان الخصاء، كرمز لفقدان سلطة الذكورة والتفرد، نجد الرواية تنتصر لفاعلية الأنثى في زمن الأسطورة، كمحرك لسيرورة الحياة، إذ تمثل بفاعلية قيمة وجودها المتعلق بإنتاج الحياة، إذ يطلق عزام العنود، فتتزوج مرة أخرى لتحمل وتنجب وتحقق شرط وجودها، أما حنان التي لم تنجب والتي تبدو معتمدة على الذكر اعتمادا سلبيا، فإنها بانفصاله عنها تفقد قيمتها الوجودية (انتهى كل شيء بالنسبة لها)، ونوف أسوأ حالا منها، عنها إذ بقيت عذراء، حتى ماتت غريبة، فاقدة لقيمتها كأنثى، حيث لم تحقق متعتها على المستوى الفردي، وظلت ملازمة وتابعة لسالم ( الزوج) لتفقد شرطها في إنتاج الحياة وإيجابية الفعل في نهاية المطاف. وترصد الرواية كذلك، فقدان المكان لقيمته، - ممثلاً جزئياً لأبنائه-، وفشله في استعادة موروثه، والتواصل مع ماضيه البناء، وهو القديم قدم وجود الأسطورة، لكنه حين اغتيلت الأسطورة، ارتهن للسلبية في التعاطي، ونسي فاعلية وجوده، ونلحظ عدم التمكن من استمرارية البناء والتحديث باستلهام ذلك التاريخ. يرد في سياق النص مشهد (مقبرة تيماء)، وما حاق بها، مؤديا صورةً رمزيةً، تمثل السطحية في التعاطي مع الموروث الماضي، بل تتعدى ذلك لإبراز الإضرار والتشويه شبه المتعمد الذي لحق الماضي على يد أبناء الحاضر، في مشهد مياه المجاري القذرة، ومخلفات الصرف الآسنة تطفو داخل المقبرة (حيث إن مياه المجاري متعلق بشري صناعي)، ونجد السيل هنا والذي يعد سببا للحياة، يؤدي إلى نقيضه، ويسقط المطر حاملاً في باطنه الأذى، ليسيء إلى الماضي ويلطخه بالقذارة، وتمثل جثث الأموات الماضي الثري المتوارث منذ الأساطير السحيقة، وتؤكد على عراقة تاريخ الأرض، لكن أبناء الحاضر لم يتمكنوا من استلهام ذلك التاريخ، فبعد أن تسببوا في تشويهه، لم يكن لديهم فاعلية ولم يجدوا وسيلة مناسبة للتعامل معه، فاستندوا إلى فتوى دينية، تجيز لهم نقل الجثث/ التراث وتحويلها إلى مكان آخر تدفن فيه بكل ما تحتويه من أسرار وتاريخ، يحفظ لها الجمود، ويحقق عدم المساس بها، ونلحظ ملمحاً سلبياً آخر في التعاطي مع ما يقدمه التاريخ ممثلاً في تحويل مكان المقبرة بعد أن رصف إلى مواقف للسيارات، لا أكثر، حيث لم يكن بالإمكان استثماره في بناء واقع جديد وفعالية حديثة، وأدى ذلك بالتالي إلى إهدار قيمة مادية، ورمزية كبيرة، فمظهر الحداثة الوحيد هو وجود السيارات في هذا الموقع لكنها هنا في حالة من الجمود، وفقدان الحركية (مواقف سيارات). ليؤكد أن الحضارة التي بنيت في هذا المكان هي حداثة قائمة على جثث الأموات، وليست على حياة منجزهم. ملمح آخر يبرز في حضور المكان، حيث يظهر في زمن الأسطورة منغلقا على ذاته لكنه يموج بالحياة، ومكتفياً ذاتياً، والانفتاح الوحيد على العالم الخارجي يتمثل في التغريبة، والانتقال إلى بلاد الشام، كخيار بديل لحتمية الموت، لكنه خيار مرفوض، حيث ينتصر السياق لقدسية الانتماء للمكان، ويحقق استمرارية الحياة من خلال طقوس الاستمطار، ومناجاة الأسطورة التي لا تخذلهم، في حين يبدو الانفتاح في العصر الحديث على أماكن عدة، لكنه انفتاح سلبي، يرد في موضعين الأول يبدو كقيمة فائضة ورفاهية مترفة فارغة من معناها من خلال رحلة السياحة لنوف وسالم، إلى (ماليزيا) في شعر العسل الذي لم يتحقق فيه العسل المأمول، وبدا محملاً بالمعاناة والكآبة، والآخر تمثل في الرحلة إلى عمان لعلاج سالم، لكنها كذلك لم تحقق غاياتها، ولم تحقق الشفاء، بل على العكس من ذلك جلبت العناء، وانتهت بالموت. * باحث سعودي.