يستعين الشاعر بالصور الموحية لتجسيد عواطفه وتحرير وجدانه المكبوت حتى ينتقل للناس ويظهر للوجود، في حالة بوح إبداعي يخفّف التياعه حين ينقله لشكل جماعي يردده معه الناس ويظهر فيه مكبوت الإحساس، فأقتل الوجد دفينه، كما الحزن.. وأقوى الأشياء في تجسيد وجد الشاعر وحنينه هي الأحياء التي تعيش مثل حالته وتعاني معاناته، كالحمامة التي فقدت أليفها، والناقة التي ذُبح حوارها، والجريح الذي تكاثرت عليه الرماح، والأسير الموثق المقدم للقتل، أو البكر المشدود وثاقه وقد أحس بالذبح كما قال امرؤ القيس: (يحن حنين البكر شُدّ وِثاقهُ) وهذه الصور كثيرة في الشعر الفصيح والشعبي، وسوف نورد بعض النماذج .. وقد يستعين بأشياء ليس لها روح لكنها في وضع يمثل العذاب كأغصان الشجر التي جرها السيل وجرفها بعنف كما في قصيدة الدجيما الشهيرة: ياجر قلبي جر لدن الغصونِ وغصون سدرٍ جرها السيل جرا أو تلة الغرب بعنف كما قال ابن سبيل: (يا تل قلبي تلة الغرب لرشاه) والغَرب وعاء من جلد يُصنع من رقبة البعير المسكين ليحمل الماء من أسفل البئر بواسطة حبل غليظ (رشا) يجره بعنف بعير آخر مسكين أيضاً أو ثور تلهب ظهره السياط.. والاستعانة بالأغصان المجروفة والغروب المجرورة ربما اقتصر على الشعر الشعبي دون الفصيح.. وقد يستعين الشاعر في تجسيد وجده وحنينه بصورة مركبة كما قال قيس: وإني لتعروني لذكراكِ هِزةٌ كما انتفض العصفور بلله القطر غير أن الحمام هو أكثر ما استعان به الشعراء في تجسيد حرقة الغرام وشدة الحنين، لأن الحمام يشبه العشاق في الحب والوفاء والالتياع، ويعبر عن ذلك بشعره الخاص (النوح) الذي لا تخطئ الإذن لوعته.. أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي رب ورقاء هتوف في الضحا ذات شجوٍ صدحت في فنَنِ ذكرت إلفاً ودهراً صالحًا فبكت حزنًا وهاجت حَزني يا ليت صوت الحمامة ما يلاوعني أو ليتها يوم غنت تقصر غناها والتغني يتم في الفرح والحزن، بخلاف النوح المقصور على الحزن في كثير من الفصيح، أما في الشعبي فيدل على الطرب أو الحزن حسب النغم، لأن نوح الحمام هنا هو صوته وهديله ولا يُستدل على جزعه أو طربه إلا بنغمته التي تتضح في سياق الشعر الشعبي، فقول منصور الكنعاني (ياحمامٍ على الغابة ينوحِ ساجع بالطرب لا وا هنيّه) يا جر قلبي جر لدن الغصونِ وغصون سدرٍ جرها السيل جرا دلالته واضحة وقد يكون لهذا مخرج في الفصيح، بعض لهجات العرب تعتبر نوح الحمام هو صوتها وهديلها في كل الأحوال.. ولكن نوح الحمام في الشعر الفصيح يدل في الغالب على الحزن والشكوى، كما في القصائد المعروفة ومنها رائعة أبي فراس الحمداني: أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي مَعاذَ الهَوى ما ذُقتِ طارِقَةَ النَوى وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ؟ أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ؟ لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ الشاعر يثيره حنين الناقة يا تل قلبي تلة الغرب لرشاه