هي مقطوعة كنتُ أسمع الناس يُغَنُّون بها وأنا صغير، وكنت أسعد بسماعها، ولا أزال لأن فيها حركة وحياة، ولأنها تصف بعض أحوال النساء في زمن الشاعر، وكيف تعمل الفتاة شَعْرَها، خاصة حين تريد إغراء حبيبها.. بالطبع لم يكن هناك (كوافير) وقتها.. ولكن لا شك أن (الموضات) موجودة في كل زمان ومكان، على اختلاف في البساطة والتعقيد، والانتشار والانحسار. كما أن المرأة هي المرأة في قرية من نجد قديمة أو في باريس الآن، من حيث الغرام بالزينة، وطبيعة الإغراء لمن تهواه وتريده، مع الاختلاف الكبير طبعاً في مدى الاحتشام، فالمرأة لدينا محتشمة يصونها العفاف.. لا مجال للمقارنة لا مجال.. إلا في أن حب التزين طبيعة عند كل امرأة في الدنيا، وأنها إذا رأت من تريده وتهواه تستخدم أنوثتها وتميل إلى الإغراء، وإن كانت المقاييس نسبية، وقد يكون خجل الفتاة أمام من تريده، وتهواه، وتعثر خطاها، واحمرار خدودها، أكثر إغراءً وخطفاً للقلب من الجرأة وإبراز مفاتن الأنوثة، والشعراء خاصة يفهمون مشاعر المرأة وحركاتها، ويأسرهم خجلها وارتباكها أمام من تريده، أكثر من جرأتها وغنْجها، وإن كان المثل يقول: «إذا أحب الفتى ازداد خجلاً، وإذا أحبت الفتاة زادت جرأة». ٭ ٭ ٭ مقطوعة اليوم لشاعر عنيزة (إبراهيم بن منصور الكنعانية) وهي عاطفية، غزلية، تحيا مع الغناء، وتتجاوب مع الأنغام: «يا حمام على الغابة يَنُوح ساجع بالطرب لا واهنيِّهْ قلت حيّه ولا كنَّه بيوحي مَرّ عجل ولا سلّمْ عليِّهْ واعسى الليل دايم ما يروح ما يفارق جفارَ الصايفيِّه حيث ينصاه خَطْوات الطموح كل بيضاً هنوف عسوجيه تَنْقَض الراس لاجت بتروح وتنكّسَه ليِّه من فوق ليِّه نقضت راسها ودها تروح قلبها مشتغل يبي خويِّه يا شريفه متى ودَّك نروح يمَّ ديرة هلك يا العسوجيه قلت اصبر يطيبَّن الجروح شهر وعشر ودنّوا له مطيِّه كنّ في ضامري قدْر يفوح أو غَرْوب توامي في ركيِّه روحي روحي بغتْ روحي تروحي يوم قيل الغضيّ فيه جدريِّه جيتْ ابا اشرب وإلى مسك يفوح غاسل فيه وضاح الثنيِّه والحَجَبْ نابي فوقَ السطوح والجدايل على مَتْنَهْ طويه» هذا الغزل بحواره وتفاصيله.. يذكرني بغزل عمر بن أبي ربيعة. يبدأ الشاعر بتسخين عاطفته كما يبدأ الرياضي بالتسخين قبل دخول الملعب، فينادي - بمودة - حمام الغابة الذي ينوح على الغصون، والنوح هنا يعني الطرب والغناء، وليس على ظاهر اللفظ الدال على العذاب والبكاء، بدليل أن الشاعر يغبط الحمام على هذا النوح، ولا غبطة على البكاء، بل إن الشاعر يضع النقاط على الحروف حين يوضِّح ما هو المقصود بالنوح: «ساجع بالطرب لا واهنيه». وعلى كل حال فإن لفظة (ينوح) إذا أضيفت (لْلحَمام) في شعرنا الشعبي، فقد تدل على الطرب أو الحزن حسب السياق، ولكن دلالتها على الطرب أكثر في شعرنا الشعبي الذي مَرّ عليَّ، وليس الأمر كذلك في الشعر الفصيح، يقول أبو فراس الحمداني في قصيدته المشهورة وهو سجين لدى الروم بعد أَسْره: أقولُ وقد ناحت بُقرْبي حمامة أيا جارتَا لو تشعرين بحالي! مَعَاذَ الهوى ما ذُقْت طارقةَ النوى ولا خَطَرتْ منك الهمومُ ببَال أَتَحْملُ محزونَ الفؤاد قوادمٌ على غُصْن نائي المسافة عالي؟ أيا جارتا ما أنصفَ الدهر بيننا تعالي أُقاسمْك الهمومَ تعالي أيضحكُ مأسورٌ وتبكي طليقةٌ ويسكتُ محزونٌ ويَنْدُبُ سالي؟ لقد كنتُ أولى منك بالدمع مُقْلةً ولكنَّ دمعي في الحوادث غالي ما أجمل شعر أبي فراس! وما أشجعه وانبله! ولكنها صروف الليالي فقد عاش - وهو زينُ الشباب - معذباً أسيراً مقهوراً من موقف ابن عمه (سيف الدولة) ضده.. وضد أمه.. حيث لم يكن جاداً في فدائه من أسر الروم.. ربما كان يخاف على إمارته منه وللسياسة دروب موحشة: «زين الشباب أبو فراس ولم يُمَتَّعْ بالشباب!» وأكثر ما شجاه في أسره، حسرة أمه عليه: «لولا العجوزُ بَمْنَبج ما خفْتُ أسباب المنيِّه ولكان لي عمَّا سألت منَ الفدا نفسٌ أبيِّه لكنْ أردتُ مرادها ولو انجذبتُ إلى المنيه لا زال يطرق منبجاً في كُلِّ غادية تحيه يا أُمَّتا لا تيأسي وثقي بفضل الله فيِّه أوُصيك بالصبر الجميل فإنه نعَمَ الوصيه» ولو تركنا القلم لاسترسل مع هذا الفارس الشهم والشاعر المبدع، ولكننا نعود فنقول إن الشعر الفصيح لا يستخدم لفظة (نوح) و(ناح) لحمامة تطرب، بعكس الشعر الشعبي، يقول الشاعر إذا أراد التعبير عن طرب الحمام: رُبَّ ورقاءَ هتوف في الضحا ذاتَ شجو صدحتْ في فَنَن هنا (صدح) لا نوح.. ويقول الآخر: حمامة الأيك ليس الوجدُ سريا فردِّي في الضَّحَا لحناً غراميا.. بلفظ (لحن). على أي حال شاعرنا الشعبي فتح باب العاطفة بهديل حمامة طروب، وحيّا الحمام ولم يسمعه الحمام أو لم يُعَبِّره (ولكنه بيوحي) ولا كأنه يسمع (يوحي). هنا انتقل لمراد العاطفة، فدعا بالسقيا (لجفار الصايفية) وهي مكان جميل تلتقي أحياناً فيه الفتيات، ويمر بعض الشباب: «حيث ينصاه خطوات الطموح كل بيضاً هنوف عوسجيه» (سقيا لهذا المكان) والدعاء بالسقيا عند العربي محبة.. وأمنية حلوة.. وتعاطف وجداني.. لماذا يسقى هذا المكان؟ لأنه يذهب إليه قصداً (ينصاه) فتيات جميلات، ويهم الشاعر واحدة منهن بالذات، وهي التي فَصًّل في وصفها، فهي (تنقض الراس لاجت بتروح، وتنكسه ليه فوق ليه) فهي تنقض شعرها وتبعثره على وجهها ورأسها وهذا منظرٌ فاتن.. تسريحة عصرية فيها مرح ووحشية حلوة.. يقول شاعر آخر: «يا زين فرِّغ وقَضّ الراس» فكلما تناثرت خصلات الشعر الأسود على الخدود الخمر والوجه الأبيض المورد زادت الفتنة، وبدت الفتاة في حيوية وطلاقة وكأنها غجرية تفتن العشاق.. وهذه الفتاة التي تنقض رأسها وتلعب به لتكون أكثر إغراءً وفتنة، يحبها الشاعر، ولكن المشكلة أنها تحب رجلاً آخر! «نقَّضت راسها ودّها تروح قلبها مشتغل يبي خويِّه»! والله مشكلة! إنه موقف يوجع قلب الشاعر وغير الشاعر.. ولكنَّ الهوى غلاَّب.. فهاهو يرجوها الزواج - رغم علمه بحبها لغيره ولكنه واقعي وعاشق مسكين - وهي أيضاً واقعية وصريحة: «قالت اصبر يطيبن الجروح شهر وعشر ودنوا له مطيه» طلب منه الصبر حتى تطيب جروح حبها لصاحبها الأول الذي هجرها.. صراحة نادرة في الحب.. وحوار غريب في الأدب العربي كله.. القديم والحديث.. الشعبي والفصيح.. هكذا (عينك عينك!! وعلى المكشوف!!) هو يعرف أنها تحب غيره ومع ذلك يريدها لأنه يحبها، وهي تطالبه بالصبر لعلها تنسى حبيبها الأول! تجربة وجدانية فريدة حقاً!. ويبدو أن هذا الشاعر تعيس الحظ حقاً! ومن كُلّ النواحي مع الأسف (أثابه الله على بلواه) فمع أن (المزيونة) تحب غيره وطلبت مهلة لتنسى حبها القديم إلا أنها خلال هذه المهلة أصابها (الجدري!!) ومع ذلك فهو (وراها وراها)!! «روح روحي.. بغت روحي تروحي يوم قيل الغفي فيه جدريِّه»!! ما رأيت عاشقاً مثله يكافح كل هذا الكفاح لينال من يعشقها رغم أنها: - تعشق غيره..! - أصابها الجدري! ومع هذا فهو ماض في غرامة بها وحبه لها حتى كادت (روحه تروح) حين علم أنها (مجدورة) من شدة غرامة بها وإصراره عليها! والله إنه لعاشق مكافح! حقاً (مساكين أهل العشق)