ليس مِنْ رحِم النساء فقط تولد الأجيال، هناك ثمة رحم آخر، ثمة أشياء تحيط بالإنسان قبل أن يكتمل نموه ويشتد ساعده، مكونات الأسرة بتفاصيلها البسيطة والمعقدة، المواقف بتراكماتها، الكلمات التي تنهمر كالمطر في وعاء عقله، في الوقت الذي يعلم فيه يقيناً أن كل من حوله يعرفون وهو لا يعرف، حينما يتلقف كل ما يسمع على محمل الجد، هي ليست مجرد أشياء عابرة في حياته وإنما هي عملية ضخمة تصنع إنساناً وتشكله دون إدراكٍ أو إرادة. حينما امتلأ قلب حي بن يقظان بالحب الذي وهبته له أمه الظبية، منحته من أشكال التفكير لتتمخض بعدها فكرته بأربعين سنة، تلك أسرة حي بن يقظان الغريبة، وكانت انطلاقته الأولى، ألم تكن عينا ظبيته الأم سر تأملاته العميقة؟ ألم يكن الحب والألم دافعاه نحو التفكير؟ في داخل الأسرة يولد الطفل مرةً أخرى، ليخرج للدنيا كما تريده، ولم تكن الرحمة التي يقذفها الله في قلب الأم إلا لكي يتهيأ الطفل لميلاده الثاني، لكي لا يصيب تكوينه الآخر اعوجاج أو تشوه، فكيف بمن يفتقد تلك الرحمة طفلاً؟ إن حالات التقريع التي تعصف بحياة طفل من قبل والديه أو أساتذته ليست مجرد كلمات عابرة يستطيع نسيانها، بل ستبقى في ذاكرته، والأدهى من ذلك حينما تتسلل إلى قناعاته، وهذا ماسيحدث غالباً، بأي شكلٍ سيولد هذا الطفل للمجتمع ضعف التقدير والاحترام، عدم المبالاة، الاستخفاف بالإنسان، قد يواجهها الشخص في حياته كثيراً، ولكنها ذات تأثير سام جداً حينما يواجهها داخل أسرته، ستجعله أقل تقديرا لذاته، ثم سيدخل في أتون المجتمع بعجز حقيقي عن تقديم ما يمكن له أن يقدمه، فكيف سيطلب التقدير من الغرباء وهو يفتقده من أقرب الناس له؟ بل ربما زاد الأمر سوءاً فيرى بأنه ليس في محل تقدير أصلاً. إن هذا التكوين المشوه مسؤول مسؤولية كاملة عن ماضيه الكثير من العقول والمواهب والأفكار التي واجهت التقريع حتى تحطمت، فهل يعي الآباء والأمهات أن التكوين النفسي لا يقل أهميةً - أبداً - عن التكوين البيولوجي للإنسان؟