عندما سلمني المهندس محمد العنزي مدير دار منطاد للنشر والتوزيع في دولة الكويت، النسخة الإلكترونية من كتاب «الكثير من القليل» The More of Less للاتفاق على ترجمتها لصالح الدار، أوجست خيفة، وترددت في الشروع بالترجمة دون أن أخبر أحداً بذلك. فها هو أحد الكتب الجديدة في تطوير الذات، والتي تشبّع فيها سوق الكتب وفاض، وكأن هذا ما كتبه القدر لي في ترجمة هذا اللون من الكتب. لكن بمجرد قيامي بالاطلاع المبدئي على مقدمة كتاب الأميركي جوشوا بيكر Joshua Becker حتى تغيّر رأيي مئة وثمانون درجة، فالكتاب يتحدّث عن فكرة ليست مطروقة كثيراً، وهي أن لا حاجة لنا إلى الكثير من الأشياء أو اكتنازها، والعمل بموجب هذا المبدأ يمنحنا وقتاً كافياً للاستمتاع أو عمل ما هو أهم، فضلاً عن التوفير المالي بطبيعة الحال، وهو يؤدي في النهاية إلى العيش في حياة مقبولة جداً. تقوم فكرة الكتاب على الدعوة إلى العيش على الحد الأدنى من المقتنيات أو الممتلكات وتقنينها، وهي فكرة ليست بالجديدة بالمناسبة، لكن بيكر، وهو قسيس سابق، يدعو لها من جانب وجداني ونفسي، فيقول في هذا الصدد: « إن امتلاكنا المفرط للأشياء لن يمنحنا السعادة، بل الأسوأ من هذا، فهو يبعدنا أكثر عن مصادر السعادة نفسها! وبمجرد تخلصنا من الأشياء التي لا تهمنا، سنكون أحراراً في اختيار وممارسة الأشياء التي تهمنا حقاً». بدأت الحكاية في أحد أيام صيف العام 2008، عندما قرّر بيكر وزوجته الشروع بالتنظيف السنوي للمنزل وملحقاته بدءاً بمرآب السيارات، في نهاية تلك المهمة الشاقة، كانت النتيجة مهولة: كومة من القاذورات، والعديد من الأشياء التي يعلوها الغبار، مكدسة على ممر السيارات، وجد أنه لا يحتاج إليها أو إلى استخدامها في الغالب، فقرر التخلص منها: «بدأنا ببيع الأشياء التي لا نريدها، ومنح بعضها لمن يحتاجها، وتخلصنا من البقية الباقية برميها في حاوية النفايات، وخلال ستة أشهر، تخلصنا من 50 % من حاجياتنا، وسرعان ما رأينا فوائد تقليل المقتنيات وتملكها، وأسسنا لفلسفة تبرز الفوائد التي يكتسبها كل فرد من خلال العيش البسيط والهادف». يعرض بيكر الكثير من القصص الممتعة والعجيبة والنصائح الفعالة والتجارب الشخصية لأناس من كافة الأطياف، قابلهم أو سمع عنهم، ويشرح لنا من خلالها كيفية تحويل «رحلة التقنين» إلى تجربة قابلة للتطبيق بين الأصدقاء وأفراد الأسرة، بل ويقدّم النصائح النفسية والاجتماعية في حال عدم تقبّل فرد أو أفراد من الأسرة لهذه السياسة الجديدة، وهذا وارد جداً، وقد ذكر عدة قصص في هذا الصدد وكيفية قبول الطرف أو الأطراف الأخرى العمل بموجب هذه الفلسفة الحياتية، بل والاستمتاع بها فيما بعد. يقول بيكر: إنه لا ينادي بالعيش على الكفاف والتقتير أو حتى البخل، لكنه يدعونا إلى التفكّر بمسألة الاكتناز واقتناء ما يزيد عن الحاجة حاضراً ومستقبلاً، وما يترتب عليه الأمر من قلق وتوتّر وديون تعيش على وقعها كل يوم. وفي أحد الأبواب المهمة والطريفة للكتاب يدعونا بيكر أثناء التسوق بكل أنواعه، إلى الحذر من لعبة المسوقين وأصحاب المحلات، وطرق الإغراء التي يوقعون بها المستهلك كتذوق الأطعمة، وشراء سلعة وأخرى مجانية، أو بوضع بعض السلع المغرية في مدخل المتجر، وغيرها من خلال بعض القصص الجميلة، ويقدم لنا طرقاً بديعة للهروب من هذه المصائد وغيرها، لكنه يؤكّد في كل مرة على بذل الجهود للعمل في التغلّب على النزعة الاستهلاكية المتفشية بموجب المعادلة البسيطة: تغليب الجودة على الكم، والحاجة على الطلب، والتجربة على النوع. يحتوى الكتاب على ثلاثة عشر فصلاً، نثر فيها جوشوا بيكر خلاصة تجاربه في هذه الفلسفة، ومحاضراته التي ألقاها في طول الولاياتالمتحدة وعرضها، وقد ركّز فيها ابتداء على كيفية تبني هذه الفلسفة المعيشية للتخلّص من زوائد المقتنيات، والبقاء على هذا النمط المعيشي من خلال مكافحة النزعة الاستهلاكية، وإدراك خللها المزمن في المجتمعات التي يقر بيكر أنها كانت مقصورة على المجتمعات الغربية، لكنها الآن شاعت بين جميع المجتمعات غنيها وفقيرها. ثم يتجه إلى الأهم وهو الصبر والجلد، ثم الاعتياد على هذه الفلسفة الحياتية الجديدة من خلال الالتزام بالعديد من البرامج والأنشطة، وحتى العادات، وفي إدراك الخلل المزمن في المجتمعات. ولا يخلو الكتاب من الإحصاءات والأرقام والمراجع الدقيقة الموثقة لها. كان استمتاعي بترجمة الكتاب يزداد مع كل فصل، وأنا أدرك أنه يأتي بشيء جديد، وهنا تزداد أهمية الترجمة وأهدافها، ألم يقولوا أن المترجم مؤلف بالضرورة؟ سيصدر الكتاب قريباً عن دار منطاد للنشر في الكويت الشقيقة، وأرجو أن ينال الإعجاب والفائدة، ف»الكثير من القليل» سيمنحك المزيد من الوقت والمال والحرية؛ لتحقيق أهدافك الكبرى كما يقول المؤلف، فالإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة. كتاب الكثير من القليل