عجيبةٌ هي الدنيا في سرعة مضيِّ أيامها، وتبدُّد لياليها، وكأنما ذلك الحديث الذي أخبر فيه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عن تقارب الزمان، وأنَّ السنة تكون فيه كالشَّهر، هو زماننا هذا الذي نعيشه. ففي العام المنصرم، وفي مثل هذا اليوم الثالث من الشهر الثالث من عام 1441ه، ودَّعت أم القرى علماً من أعلام الإقراء البارزين فيها. إن جفَّ دمع العين لفقده فلم يجفَّ حتى الآن دمع الفؤاد، فذكراه، وابتسامته الآسرة، وسمو أخلاقه، وجميل صفاته مازالت عالقة في ذاكرة مُحبِّيه وطلابه. رجلٌ قرآني بارع، أفنى عُمُره خادماً للقرآن وأهله، بذل من جهده وصحته الشيء الكثير، فما عرفتُهُ إلا قارئاً أو مُقرئاً، كان يشدُّ رحله إلى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقرأ على شيخه، ثم يعود إلى مكة فيجلس مع طلابه يعلِّمهم ما تعلَّم، هكذا كان دأبه، وهذه هي أبرز ملامح حياته، وهذه السِّمة التي عُرِف بها: تعلُّم القرآن وتعليمه. يُعدُّ شيخنا الشيخ فؤاد مصطفى كمال الحسن -رحمه الله- من أقدم طلاب الشيخ إبراهيم الأخضر -أطال الله في عُمُره- وأبرزهم، حتى إنَّ الشيخ إبراهيم كان يُلقِّبه ب (العُمدة)؛ فقد لازمه أكثر من ربع قرن، عرف خلالها أساسيات القراءة التفسيرية التعبيرية المحبَّرة، وأسرارها، وتفاصيلها الدقيقة التي تعلَّمها، وتلقَّاها من شيخه. قمةٌ في التواضع والأدب، إذا رأيتَهُ رأيتَ شيخاً وقوراً، تحفُّه جلالةٌ وهيبة، ومع هذا له إطلالة باسمة، وثغرٌ ندي. صحِبتُهُ فرأيتُ قلباً طاهراً وديعاً، من براءته يحكي لك أدقَّ تفاصيل حياته، ما في قلبه يجري على لسانه سليقةً، وكنتُ أعجبُ منه فعلاً حينما يحكي لي أحياناً أدقَّ أموره، وأخصَّ شؤونه. سهلٌ ليِّن، لطيف المعشر، نظيف المخبر، عفَّ اللسان، هادئ الطباع، لا تملُّ الجلوس معه، قليل الكلام، كثير الصَّمت، لا يتكلَّم إلا إذا دعت الحاجة، وإذا تكلَّم فعباراته موجزة؛ لكنها تغني، صوته لا يكاد يُسمع، لا أذكر طيلة قراءتي عليه، أنه رفع صوته يوماً، أو نَهَر طالباً أو زجره؛ بل من تقاسيم وجهه كنا نعرفُ هل هو راضٍ عن القراءة أم لا. يأسِرك بأخلاقه، تألفُهُ من حيث لا تشعر، حريصٌ على حقوق الآخرين، كثير البذل، قويُّ التحمُّل، صبورٌ لا يشتكي ولا يتأفَّف. كَسَبَ قلوب الناس عموماً، وطلابه خصوصاً بأخلاقه التي كان يتعامل بها، ولا عجب! فحامل القرآن لا بد أن يتخلَّق بأخلاق القرآن، ويمتثل أمره، ويُرى ذلك عياناً في خصاله وسجاياه. كان مما يتميَّزُ به شيخنا، أنه كانت لديه طريقة عفوية فريدة يتعامل بها مع جميع طُلابه، فهو يهتم بهم غاية الاهتمام، ويعاملهم معاملةً راقيةً، حتى إنَّ كلَّ طالبٍ يشعر ويظنُّ أنه الطالب المقرَّب لديه، من جميل تعامله معه، واحترامه وتقديره للطالب. أيضاً كان يتميز من خلال تعامله مع طلابه، تعامُلُهُ معهم بالروح الأبوية الحانية، التي كانت تسودُ الجو التعليمي أثناء الإقراء، وخارجه. قبل ساعة من وفاته أو أقل، وكعادته كان جالساً في مجلس إقرائه، ثم انصرف من مجلسه ذاك، وأثناء مرافقته لآخر طالبٍ قرأ عليه، فاضت روحه قبل مغيب شمس ذلك اليوم، ولعلَّ الإقراء الذي شاب عليه هو آخر عمل لقي به ربه. قَدْ مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَتْ مَحَاسِنُهُمْ وَعَاشَ قَومٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أمْوَاتُ رحم الله شيخنا رحمة الأبرار، وجعل مقامه في عليين، وجزاه خير الجزاء على ما بذل وأعطى، وجمعنا به في دار كرامته، ومستقرِّ رحمته، وجعل هذا المقال خالصاً نافعاً لأهل القرآن الذين سلكوا تعلُّمه وتعليمه.