قبل أن تنطوي ذاكرتي في عالم النسيان، وأتوه في خطوب الزمان، وقبل أن يرق عظمي ويشيب رأسي وتفقد الأشياء رونقها وتخور عزيمتي وأرفع منديلي في وجه الحياة. لا بد أن أرسل رسائل العرفان، وأتغزل في العيون المشرقة والثغور الباسمة، وأعلن الحب للمحبوب، وأشكر من له مكانة عالية أصابت قلوبنا. ما أعظم التعبير بمكنون الخاطر، أوَ ليس ذلك منهجا نبويا؟ يقول أنس بن مالك إن رجلاً قال: يا رسول الله إني لأحب هذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعْلَمته؟ قال: لا، قال: أعْلِمه. قال: فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الله الذي أحببتني له». لا ضير أن أفصحتُ عن حبي، وما أجمل هذه الإفصاح إن كان لشخص أمضى عمره في سبيل راحتك، ومضت أعوامه في سبيل تنشئتك نشأة حسنة وطيبة، غير أن تضحياته لا تعد ولا تحصى، يعطيك الجميل ويأخذ القبيح، يسلك طريق الأشواك لتسلك أنت طريق الورود، يهب لك الطيبات حتى تنعم بها، ويشقى ليشاهدك رجلاً تملأ الكون بنظره. في عام 1955 رُزق جون هولتر بابن يعاني من مرض الاستسقاء الدماغي، لم يستطع الأب أن يقف مكبل اليدين وينظر لابنه الذي لم يذق معه كؤوس الهناء، يعمل هولتر صانع أدوات في شركة، مكنه ذلك من اختراع صمام من مادة السيليكون يساعد فيه ابنه العليل، ووافق الأطباء عليه بعد فحصه، لكن هادم اللذات لم يمهل هولتر وطفله، وظل هذا الاختراع المولود بحب وعناية، يساعد الملايين منذ أواخر الخمسينات. ما أعظم الأب! وما أجمل خوفه، وحبه، وعطفه، وقسوته، وغضبه، وضحكاته المتواصلة، وخوفه وحذره!. ويبلغ حب الابن لأبيه درجات عالية، وقصائد سلطان بن عباس شاهدة على ذلك فيقول: إذا طبت قولوا طاب سلطان بن عباس وإذا خبت أمانه خلوا أبوي في حاله ويقول: أتعبني أبوي جعل أبوي فالجنه لا جيت نصفه، ولا ربعه، ولا حوله وحب والدي تغلغل في قلبي وسيطر عليه، ولو استطعت لأمضيت حياتي كلها جالساً بجواره، أسمع منه حتى ارتوي، وكيف يرتوي الابن من والده؟ وفي حضوره لا أشعر أني رجل، بل طفل لم يكبر قط، خصوصاً في الأماكن العامة، والمناسبات، وغيرها.. أمضي خلفه وهو في الأمام، اختبئ خلف ظهره من كل شيء، من أهوال الدنيا ومصائبها، من أحزانها وكوارثها، ومن نظرات الناس التي تحملق «فيني» عند دخولي للمجلس وأنا ارتدي الشماغ الذي لا أحسن ارتداءه، فأكون ملتصقاً به خجلاً.. مازلت ذلك الطفل، ولو نبتت لحيتي وشاربي. وأذكر غير مرة، أنه حفزني في طفولتي في بعض الأشياء التي حاولت إتقان صنعها، وكنت أعرض عليه نتائج أفعالي، وكان يقابلها بالمديح المستمر، رغم رداءة عملي، لكنه أب، وما أدراك ما الأب؟ أوقد «فيني» الحماس وظللت أمارس هذه الأشياء، وأصبحت صنعتي فيما بعد، ولو قابلني بسيئاتي لكنت هجرتها ومللت منها، واليوم هي خصال مميزة «فيني»، بفضل الله، ثم فضله، وأتذكر في المرحلة المتوسطة أنه اقتنى لي أول كتاب قرأته، وبعد ذلك بسنين أصبحت مولعاً بالكتب، وكنت أطلب منه معظم الأوقات قيمتها، فيغرقني بسخائه وعطائه. أبي هو عصاي التي أتوكّأ عليها، بدونها لا يستقيم ممشاي، ولو لم تكن للمقالة فنون وكلمات محدودة لاستمررت في الكتابة، فوالدي لا يكفيه مقال أو فصل أو كتاب، أطال الله بقاءه، وأنعم الله عليه من نعيمه، وجمعنا في جنة خلده.