يتهمني بعض الأصدقاء بالمبالغة في الحديث عن موروثنا اللغوي، والتهويل من تبعات محاكمته بمعايير هذا العصر ومكوناته التقنية والحضارية، جاءت هذه التهمة جرّاء ما طرحته الأسبوع الماضي، عن تلك الصورة الافتراضية ل»قيس وليلى» حينما استهدفت تشويه حكايتهما طرافة أو حتى محاكمتها بمعايير هذا العصر، والواقع أن الأمر لدي يتجاوز المنافحة عن اللغة التي تربّت عليها روحي أكثر من ثلاثة عقود، إلى الخلوص إلى أن اللغة ذاتها هي منجزنا الحضاري والثقافي الوحيد كأمّة، وبالتالي لا يبرر هذا التغرّب الذي تعيشه اللغة اليوم عزوفنا عنها أو تسفيهها أو حتى التشكيك في أهمية التواصي بها واستدراك انهيارها فيناً. نحن أمة.. تراثنا لغة.. وتاريخنا لغة.. بل حتى ديننا لغة.. ف»القرآن معجز بنظمه لا بأحكامه» كما يقول عبدالقاهر الجرجاني، ففي الوقت الذي استطاعت فيه الأمم الأخرى توثيق موروثها بالتماثيل المنتشرة في كل الثقافات، كان وجودها فينا محرّماً!، وبالتالي اكتفينا بمروياتنا الكلامية، حيث تخلّق موروثنا كله داخل رحم اللغة وتولّد منها، وباتت اللغة ملازمة للثقافة، حتى على المستوى الشعبي.. لا تكتمل صورة المثقف لدينا إذا قصر في لغته، بل إن مراحل كثيرة من مراحل تاريخنا الحضاري اكتفت باللغة والأدب كصورة نمطية للمثقف فينا... واليوم إما أن نستدرك لغتنا المهدرة نتيجة وحشتها وتغرّبها في هذا العصر، أو نستثمر مخزونها التاريخي على مستوى المكان على الأقل، فنمنح عين الجواء في منطقة القصيم مثلا هويّة ثقافية تعود بها إلى أسطورة عنترة، ونفعل في مناطقنا الأثرية الأخرى ما يحيل المكان للزمان واللغة للتجسيد. والحقيقة أنني مثل غيري أدرك هشاشة اللغة مع تعاقب الأزمان واختلال موازين قيمتها وحضورها من عصر لعصر نتيجة حضارة أمتها، وبالتالي أعلم أن هذا العصر ليس كسابقه من عصور الحضارة العربية، نتيجة انصرافنا عن العربية الفصحى كلغة.. حتى بدت أحياناً لغة ثانوية عند أبنائنا، إلا أن هذا الاستسلام يجب أن يواكبه فعل وثائقي مخلص.. يستخلص من هذه اللغة موروثاً غير قابل للسفه أو التشكيك، فالحديث عن ليلى العامرية اليوم على سبيل المثال يختلف جوهريًّا عن الحديث عن «جولييت» على الرغم من تشابه الحكايتين بينهما، والسبب يعود إلى تشخيص الحكاية، فشرفة جولييت مزار للسياح، والصور الملتقطة لها ومعها باتت غاية تشدّ إليها الرحال.. بلادنا اليوم تفتح ذراعيها للعالم، وهي بلاد مكتنزة جداً بموروث عظيم، وما علينا إلا أن نخلّصه من ضعف اللغة بتجسيده من جهة ونعيد للغة حضورها وحيوتها من خلاله.