"انظروا ماذا حدث، كيف غير أردوغان فكره، سأشرح لكم لب هذا المؤتمر... خلال هذه الزيارة تولى (أردوغان) منصب رئاسة مشروع الشرق الأوسط.. وهناك ألبسوه قميصه الجديد، هل تعلمون اسم هذا القميص؟ اسم طيب اثنان (أي النسخة الثانية من رجب طيب أردوغان). لقد لبس القميص رقم 2 بدلاً من قميص الرؤية الوطنية". هذه العبارات القوية ليست تأليفا أو تنصيصا من مخيلة الكاتب أو جريدة "الرياض" بل هي كلمات نابعة عن الأب الروحي لرجب طيب أردوغان ومن علمه أصول ومبادئ العمل السياسي بالمفهوم المودودي للمصطلح ونقصد هنا السيد نجم الدين أربكان أحد أبرز أقطاب الإسلام السياسي في تركيا. وقد يعتقد البعض أن هذا القول هو من باب الاتهامات المجانية التي تدخل في خانة التدافع السياسي المعمول به في بلد مثل تركيا، غير أن المعني المباشر بهذا الاتهام خرج شخصيا للتأكيد على الدور الجديد لتركيا في المنطقة مقابل تمكين حزب العدالة والتنمية من حكم تركيا، وإلا كيف نفسر أن حزبا سياسيا تأسس بالكاد سنة 2001م سيفوز برئاسة الجمهورية سنة فقط بعد ذلك. وهنا نجد أردوغان يصارح أنصاره بمناسبة تجمع خطابي بتاريخ 3 أبريل 2006م حين قال ما نصه "تركيا لديها مهمة كبيرة، نحن رئيس مشارك لمشروع الشرق الأوسط الكبير ونحن نعمل على هذا المشروع". هذا الاعتراف بدأ يتبلور واقعا ملموسا على الأرض حيث إن جميع الدول العربية التي تهددها مشاريع التقسيم تعاني في التدخل التركي المباشر (سورية، ليبيا، العراق) أو غير المباشر (اليمن، لبنان) وهو ما يقطع بأن أردوغان انتقل إلى مرحلة التنزيل المادي لمشاريع الشرق الأوسط الجديد ولا يعدو ما يقع في ليبيا إلا أحد مظاهره. وبإسقاط مشاريع مخططات التقسيم على ليبيا في أعقاب الثورة التي أطاحت بالعقيد معمر القذافي، يمكن القول بأن حالة من الفراغ السياسي والأمني والمؤسساتي سادت في هذا البلد العربي وشكلت فضاء ملائما لنشاط التنظيمات الإرهابية والتي وجدت في ليبيا بيئة استراتيجية مناسبة لخدمة مشاريع التوحش الإرهابي والتمكين السياسي. وأمام هذا الوضع كادت ليبيا أن تتحول إلى دولة فاشلة وكيانا سياسيا مستباحا من القوى التي لها مصالح سياسية أو اقتصادية في بلاد المختار، قبل أن يتدخل الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر وبدعم شعبي كبير ليقود معركة تمشيط ليبيا من الجماعات الإرهابية انطلاقا من الشرق ووصولا إلى تخوم العاصمة الليبية طرابلس. في هذا السياق، استشعر الشعب الليبي حقيقة المؤامرة التي تستهدفه بتنفيذ مباشر من أردوغان، ليقوم بمعركة وجودية، تحت قيادة جيشه الوطني، ضد التنظيمات الإرهابية التي قامت باستباحة التراب الليبي. وكادت ليبيا أن تحقق حلمها في استرجاع السيادة المطلقة على جميع أراضيها بفضل بطولات الجيش الوطني الليبي الذي بات على بعد كيلومترات قليلة من إخضاع مركز الثقل السياسي لليبيا ممثلا في العاصمة السياسية للدولة طرابلس لولا التدخل التركي الذي أفشل طموحات توحيد ليبيا والقضاء على الميليشيات الإرهابية وفرض منطق الدولة، ليعود الوضع في ليبيا إلى نقطة الصفر. في هذا السياق، وبعد الطلب الذي تقدمت به حكومة فايز السراج المنتهية الصلاحية، سيتدخل أردوغان في ليبيا لمحاولة تنزيل خرائط التقسيم كما هي مسطرة في الوثائق التي تحفل بهم محركات البحث، لتتكرر مرة أخرى سيناريوهات التقسيم القادمة من الخارج ضدا على الإرادة الشعبية التي تصدت دائما لمشاريع بلقنة ليبية منذ مشروع بيفن - سفورزا في 17 مايو 1949م والذي حاول تقسيم هذا الوطن العربي بمباركة أممية لولا صوت دولة هايتي والذي كان حاسما في إسقاط مخطط التقسيم آنذاك. إن الرغبة الجامحة لأردوغان لتقسيم ليبيا دفعته إلى التحالف مع تنظيمات لا وطنية تؤمن بمشاريع فوق - ترابية من قبيل القاعدة وداعش والإخوان المسلمين والتي لا تجد حرجا في تقسيم ليبيا بالنظر إلى أن الوطن بالنسبة لهاته التنظيمات جميعها هو مجرد "حفنة من تراب عفن" كما نظر لذلك المرجع العقدي والسياسي لهذه الجماعات المتطرفة سيد قطب، وبالتالي فإن ما يهم هو تحقيق حلم التمكين السياسي على بقعة أرضية في انتظار التمدد نحو باقي الدول العربية والإسلامية متى ما اجتمعت الشروط الذاتية والموضوعية لهذا التمدد. ولعل تماهي مشاريع الفوضى الخلاقة مع أدبيات التوحش التي تتبناها التنظيمات الإرهابية جعلت من أردوغان وقطر خير من ينفذ هذه الأجندة "الفوضوية" أو بشكل أدق "الفوضى المتحكم فيها"، حيث نجد تطابقا غريبا بين الاستراتيجيتين. فإذا كانت التنظيمات الإرهابية تقول بأن خلق مناطق التوحش يبقى مقدمة ضرورية لإدارته وبالتالي الوصول إلى مرحلة التمكين، فإن مشاريع الفوضى الخلاقة تعتقد بإمكانية التحكم المرحلي في تطور نظام الفوضى، بحيث تبقى ميزة هذا التحكم أنه يُحافظ على النظام المجتمعي ضمن المجال الترابي للفوضى، غير أن هذه الفوضى هي في حقيقتها أبعد ما تكون عن الفوضى بتعبير برنشتاين (الحركة كل شيء والهدف لا شيء) مادام أن جدلية الفوضى والنظام تتطور مرحلياً نحو الهدف السياسي المنشود. مشروع آخر من مشاريع تقسيم ليبيا أثار العلاقة المشبوهة بين أجندة الفوضى الخلاقة ومشاريع أردوغان في ليبيا، حين قامت صحيفة "الغارديان" في عددها الصادر بتاريخ 10 أبريل 2017م بتسريب مضامين مشروع التقسيم الذي اقترحه سباستيان غوركا والذي يدفع في اتجاه تقسيم ليبيا إلى ثلاث دول (دولة برقة، دولة فزان ودولة طرابلس)، وهو المشروع الذي لقي معارضة قوية في الداخل الليبي على اعتبار أن ليبيا تشكل تجمعا سكانيا متجانسا إثنيا وعرقيا ولغويا حيث 100% من سكان ليبيا هم مسلمون سنة وأصولهم العربية في أغلبها تعود لقبائل عريقة، ولا توجد بين مكونات الشعب الليبي طوائف أو إثنيات متمركزة في مجال جغرافي محدد قابل للتحول إلى دولة مستقلة. هذا الواقع على الأرض جعل من مشروع "غوركا" يولد ميتا في ظل غياب مجموعة من الشروط التي يمكن أن تشكل مقدمات للتقسيم. غير أن الغريب في مشروع سباستيان غوركا أنه اعتمد على خرائط الولايات العثمانية القديمة وهو ما يقطع بأن هناك تنسيقا وتوافقا في مستوى من المستويات بين مشارع التقسيم وأجندة العثمانيين الجدد في ليبيا، رغم أن البعض اعتبر هذا المشروع مجرد بالون اختبار للدفع بالفرقاء السياسيين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوافق على خارطة طريق للوصول إلى اتفاق سياسي يطوي صفحة سنوات من الصراع المسلح أضاعت على الليبيين فرصة العودة بليبيا إلى سابق عهدها كدولة ذات وزن إقليمي في المغرب العربي والقارة الإفريقية. يبدو أن هناك توافقا على إعادة ليبيا إلى نقطة الصفر حين كان هذا البلد العربي مقسما إلى ثلاث أقاليم أدى اتحادها إلى الوضع السيادي الحالي لليبيا، والأكيد أن الخلاف هو حول حدود التقسيم في ظل تشبث أردوغان بإخضاع محور سرت الجفرة الاستراتيجي، حيث تعتبر مدينة سرت البوابة الرئيسية للهلال النفطي الليبي والذي يضم أربعة موانئ رئيسة (رأس لانوف والسدرة والزويتينة والبريقة) كما تحوي المدينة أكبر مخزون للغاز الطبيعي في المنطقة التي يطلق عليها حوض سرت. أما الأهمية الاستراتيجية لمدينة الجفرة فتكمن في احتضانها لأحد أهم القواعد العسكرية والتي تتميز بقدرتها على استقبال أحدث المعدات العسكرية بالإضافة إلى أنها تعتبر قاعدة عمليات متقدمة للجيش الليبي. العقيدة الأردوغانية، ورغم ارتكانها إلى القاموس العثماني في اختيار مفردات التوسع والتمدد، إلا أنها في الحقيقة عقيدة "تجزيئية" تعتمد على وضع اليد على الجزء الأضعف في الدولة وبالتالي إدارتها وإخضاعها للسيطرة التركية المباشرة كما هو حال التنظيمات التكفيرية التي دائما ما تضع يدها على الجزء الأضعف من المناطق المُرشحة لمشاريع التمدد والتوحش حيث تضعف القبضة الأمنية للدول. هذا الواقع نعاينه على الأرض حاليا في شمال سورية وهو نفس الواقع الذي يريد أردوغان أن يفرضه غرب ليبيا من خلال العمل على التمكين للتيار الإخواني من زمام الحكم في "منطقة طرابلس" في أفق خلق كيان سياسي جديد يدين بالولاء السياسي لأردوغان والولاء الإيديولوجي لجماعة الإخوان. ويمكن القول بأن هناك إجماع دولي صامت على أن السلطات التركية وجماعة الإخوان والقوى الجهوية في مصراتة وأطراف في حكومة الوفاق متورطة في العمل على تنفيذ وتنزيل هذا المخطط. نقطة أخرى يجب الوقوف عندها بالنظر إلى أهميتها وهي تلك المتعلقة بمحاولات تركيا إسقاط النموذج القبرصي على ليبيا في ظل وجود امتداد عرقي لبعض العائلات الليبية، خصوصا في مصراتة، وهو ما دفع بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الحديث عن الإرث العثماني في ليبيا. هذا الطرح يتقاطع مع ما ذهب إليه فؤاد أقطاي، نائب الرئيس التركي، بشأن سعي أنقرة ل"تتريك" الغرب الليبي من خلال تحويله إلى منطقة تركية تبدأ بانتشار جنود أتراك وصولا إلى تنزيل مشروع التقسيم، وهو نفس السيناريو الذي وقع في قبرص حين اقتطعت منها تركيا جزءا وحوّلته إلى منطقة تابعة لها شرق المتوسط تحت مبررات وذرائع عرقية مرتبطة بحماية المواطنين القبارصة من أصول تركية. ومن أجل استنساخ التجربة القبرصية، عملت تركيا والإخوان على إثارة النعرات العرقية، خصوصا في مصراتة، حيث تم الدفع بتأسيس جمعيات تستحضر الموروث العثماني ومن بينها جمعة "الكراغلة" والذين يقدمون أنفسهم كتركمان ليبيا. ويسهر المدعو علي حمودة، الذي شغل وزير الأوقاف في حكومة علي زيدان والذي يقيم حاليا في تركيا حيث يعمل مباشرة مع الرئاسة التركية، على توثيق دقيق ل"الكراغلة" في ليبيا. ورغم الزخم الذي رافق التدخل التركي المباشر في ليبيا إلا أن معظم المتابعين يتوقعون فشل المخطط التركي في ظل المستجدات المتسارعة على الساحة الدولية وظهور قوى إقليمية فرضت نفسها كمحاور أصيل في منطقة الشرق الأوسط وهي الدول التي ترفض أي مشروع للتقسيم وتتمسك بوحدة الأراضي الليبية مع ضرورة القضاء على التنظيمات الإرهابية التي تنشط غرب ليبيا بدعم من أردوغان. وحتى الحاضنة العرقية "الكرغلية" لا يمكن الاعتماد عليها في ظل أنها تبقى أقلية ولم تبلور موقفا موحدا من الوجود التركي، في ظل إصدار قبائل "الكوارغلية" في مدينة الزاوية غرب ليبيا بيانا داعما للعمليات العسكرية التي كان قد بدأها الجيش الوطني الليبي. إن عدم إلمام أردوغان بالبنية السلوكية القبلية للعرب جعلته يجهل بأن القبيلة هي أحد أشد المكونات ارتباطا بالأرض وبالدفاع عنها بالمال والنفس والجهد، ولو كلف نفسه الاطلاع على التاريخ الليبي لوقف على بطولات القبائل في مواجهة الاستعمار الإيطالي وكيف قدم شيوخ من أمثال عمر المختار والفضيل بو عمر وأحمد الشريف وعبدالنبي بلخير والباروني وسعدون السويحلي أروع صور للتضحية وهم في قلة من المال والعتاد. هذه الصور والقصص لازالت تلوكها الألسن في المجالس الليبية ولازالت تساهم في تماسك جميع مكونات الشعب الليبي وتشد من ارتباطهم بوحدة أراضيهم.