مع بدء ثورات الربيع العربي في دول عدة، اندلعت في بنغازي (شرق ليبيا) في فبراير- شباط 2011 حركة احتجاجات عارمة واجهها نظام القذافي بالقمع العنيف والقتل، وذلك قبل أن تتوسع إلى مناطق أخرى في ليبيا. وفي 20 أكتوبر- تشرين الأول، قُتل «القائد» الليبي، الذي كان قد فرّ منذ أغسطس- آب، ومنذ سيطرة الثوار على مقرّه الرئيسي في طرابلس، في الهجوم الأخير على سرت، مسقط رأسه، إلى الشرق من العاصمة. في 16 مايو- أيار 2014، أعلن اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بدء عملية ضد جماعات إسلامية مسلحة في شرق ليبيا، تتمركز في بنغازي، وانضم ضباط من المنطقة الشرقية إلى صفوف «الجيش الوطني الليبي»، الذي شكله. في ديسمبر- كانون الأول 2015، وبعد أشهر من المحادثات، وقع أعضاء في البرلمانين المتنافسين في الصخيرات في المغرب برعاية الأممالمتحدة اتفاقاً نصّ على تشكيل حكومة وفاق وطني. وفي مارس- آذار 2016، أعلنت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، التي استقرت في طرابلس. عقب سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، غرقت ليبيا في حالة من الفوضى والاضطرابات لتتنافس فيها سلطتان هما حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج في طرابلس والمعترف بها من طرف دول بالأممالمتحدة وكيانات إرهابية مسلحة ودول داعمة للتطرف والعنف والإرهاب، وحكومة موازية في الشرق يسيطر عليها المشير خليفة حفتر. تسود الفوضى في ليبيا التي تخوض مرحلة حرب بلا نهاية وسط انعدام الأمن والأمان وشلل المؤسسات، وبين تفشي الجريمة، وتصفية الحسابات السياسية، والأيديولوجية والمواجهات القبلية، أصبحت السلطات الليبية عاجزة عن مواجهة الوضع. يسود ليبيا (أرض عمر المختار) الفوضى والغموض وسط أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تشل السلطة التنفيذية وتقسم التشريعية. وعجزت النخب السياسية التي تتنازع من أجل السلطة عن التوصل إلى توافق حول مصير ليبيا العربية. منذ سقوط نظام القذافي إلى ذلك الحين انقسمت ليبيا بين الإدارتين المتنافستين في الشرق والغرب، كل منهما تدعمه الجماعات المسلحة وحكومات عربية وأجنبية معينة. ليس لدى حكومة السراج قوة حقيقية، متحصن بالدعم التركي والقطري والتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين لتكون قوة مؤثرة، وموازية، وموازنة لحفتر وحلفائه. فما كان على حكومة السراج الإخوانية إلا أن توقع الاتفاق البحري مع الأفعى السامة تركيا، هذا الاتفاق الذي يقسم جزءاً كبيراً من شرق بحر المتوسط بين تركيا وليبيا، مهم بشكل خاص نظراً إلى الاكتشافات الأخيرة لكميات الغاز الكبرى التي تسببت في التهافت على عمليات التنقيب بين الدول المحاذية وشركات النفط العالمية. قطر الأفعى السامة الأخرى داعمة الإرهاب والتطرف بالشرق الأوسط تبحث عن دور لمناكفة حفتر ومصر والسعودية والإمارات والأردن وغيرهم، مستخدمة إستراتيجية المال وحقائب الدولارات للتأثير في النزاع الدائر في ليبيا واستضافت العديد من الإرهابيين والمتطرفين في الدوحة وتدعم المليشيات المسلحة في ليبيا ضد خليفة حفتر، كما هو الحال في مصر، إذ إنها تدعم المتطرفين والإرهابيين في سيناء وغيرها بالمال والعتاد، إذ تدفع قطر الأموال بسخاء وبزغ للجماعات الإرهابية المقاتلة في ليبيا، كما أنها قامت بتمويل المعدات العسكرية التي تم نقلها من تركيا إلى طرابلس. الدوحة اتبعت ما يشبه مبدأ التقية، أي إظهار عكس ما تبطن. مثلاً هي تدعم عمليا، وفعليا جماعة الإخوان وبقية الجماعات المتطرفة التي تحارب الدولة والجيش وأجهزتها الأمنية، لكنها في نفس الوقت تدين الإرهاب وتبعث للحكومة ببرقيات التعازي والتضامن عقب كل عملية إرهابية، رغم أن منصاتها الإعلامية وأجندتها في وادٍ آخر. قطر ما هي إلا مجرد أداة في يد واشنطن تستخدمها كما ومتى تشاء. رغبة قطر في لعب أي دور قيادي، ومؤثر بالمنطقة، تلاقت في لحظة ذهبية مع رغبة أمريكية بتوظيف عملاء وخونة لشعوبهم وقوميتهم لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة، فكانت قطر خير الحليف الإستراتيجي العميل والخائن لعروبته، وقوميته ويرى معظم المراقبين، وكتاب الرأي، والمحللين السياسيين إن أحد الدوافع الأساسية التي تحرك قطر وتدفعها هو من أجل مناطحة الكبار في المنطقة خصوصا السعودية ومصر، ولذلك فإنها لجأت إلى اتباع سياسات تبدو لكثيرين متناقضة، من قبيل التقارب والتنسيق مع إيرانوتركيا تارة، أو إسرائيل تارة أخرى، وبالطبع مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في كل الأوقات، باعتبار قطر عميل إستراتيجي لها، وأكبر الداعمين للاقتصاد الأمريكي الأمر يختلف كثيرا بالنسبة للتواجد التركي في المنطقة وخاصة ليبيا العربية. تركيا تسعى إلى توسيع مجالات نفوذها على الأراضي الليبية، لا سيما في الجانب الغربي منها، بالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، وعناصر الجماعة الليبية المقاتلة، فآوت أمراء الحرب الفارين من المعارك، وعالجتهم في مشافيها. هذا التصعيد التركي السافر يشكل تهديدًا للأمن والاستقرار في ليبيا وتهديداً للأمن العربي والإقليمي. إنه تدخل في الشؤون الداخلية لدولة عربية وبالتالي انتهاكات واضحة للمبادئ الدولية والاتفاقيات والعرف الدولي. وعسكرياً، فيما يبدو وأنه تدخل غير مبرر لأردوغان، إلا أنه بالتمعن في حجم الأطماع التركية في ليبيا والعوائد والمكاسب الهائلة التي ستعود عليها تتضح المصالح الاقتصادية التي ستحققها أنقرة من الأموال الليبية وثرواتها. ويقول إيجي سيتشكين الخبير بشؤون تركيا في مركز آي.إتش.إتس ماركيت: «تخشى تركيا أن تكون محاصرة من الجهة الجنوبية، في ظل خطط لخط أنابيب غاز مستقبلي يربط حقول الغاز القبرصية بالأسواق الأوروبية». وأضاف قائلاً إن الحدود البحرية التي رسمت بموجب الاتفاق بين فائز السراج وأردوغان تغطي مساحة من جنوب غرب تركيا إلى شمال شرق ليبيا، عبوراً بالطريق المقرر لهذا الأنبوب». وحكومة الوفاق الوطني الليبية هي الشريك الدولي الوحيد الداعم لحدود أنقرة البحرية. وقال أيضاً إيجي سيتشكين: «إذا كسب حفتر الحرب الأهلية في ليبيا، فإن تركيا ستجد نفسها دون أي غصن تتمسك به في شرق المتوسط». ولقطع الطريق أمام هذا الاحتمال، قال أردوغان في وقت سابق، إنه مستعد لإرسال جنود إلى إذا طلبت حكومة السراج ذلك. وأعلن أردوغان أن تركيا قد تسير دوريات في المتوسط، واعتبر إيجي سيتشكين أنها يمكن أن تشمل المياه المحيطة بجزيرة كريت اليونانية أيضاً. رغم الإدانة الدولية لخططه الرامية إلى التهام ليبيا، والاستيلاء على ثرواتها، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يواصل تنفيذ بنود مخططه السام بإرسال قوات عسكرية تدعم حليفه الإخواني فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق. لذا تعد أنقرة من أكبر حلفاء حكومة الوفاق الوطني الليبية في طرابلس، وتعززت العلاقة في التصدي لهجوم للسيطرة على العاصمة الليبية، يشنه الرجل القوي في الشرق المشير خليفة حفتر منذ أبريل الماضي. يمثل شرق المتوسط مجالا حيويا للسياسة الأمنية التركية. ويتضح ذلك في التنافس الإقليمي حول التنقيب عن الغاز قبالة السواحل القبرصية والليبية. إذ إن جائحة كورونا لم تمنع أنقرة في مواصلة مطامعها، ومساعيها لبسط نفوذها في ليبيا بدعم حكومة الوفاق الليبية. وبفضل الدعم التركي استعادت قوات حكومة الوفاق قاعدة الوطية (على بعد 140 كيلومترا غربي طرابلس) ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى في الغرب الليبي. قاعدة تتوفر على خمسين حظيرة وعدة ثكنات، إضافة إلى مدرجات لهبوط الطائرات وسط الصحراء. إن هذا المد والجزر الذي تعرفه الأزمة الليبية منذ سنوات، والتي باتت تصل إلى مرحلة التفاؤل ثم تتحرك خطوتين إلى الخلف، راجع إلى مشكلة أساسية تكمن في ازدواجية الشرعية من ناحية. ومن ناحية أخرى تعدد التدخلات وتباين الإستراتيجيات من دول أوروبية عربية وخليجية. «فتعدد الأدوار الخارجية هذا يجعل من الصعب إيجاد صيغة حل توفيقية، أو على الأقل تقريب وجهات النظر وتجسير الفجوة بين هؤلاء الزعماء لأن كل طرف يعتد بأن لديه ما يكفي من الدعم الخارجي. ويبدو أن الحل ولتسوية الصراع الدائر في ليبيا أن يقوم العالم والأممالمتحدة سحب اعترافها ب«حكومة السراج الانقلابية، وإدانة الحشد العثماني الموجود في طرابلس الذي يسانده أردوغان سياسياً وقطر مالياً». ** **