مع أذان العصر من اليوم الثامن عشر من محرم فاضت روح والدي الطاهرة إلى بارئها بعد مضي أسبوع في العناية المركزة في أحد مستشفيات الطائف الأهلية، لاضطراب في نشاط القلب، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى مع االأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين. توفي والدي فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن فيصل المبارك في تلك الظروف عن عمر يناهز الأربعة والتسعين عاماً، وكان بكامل عقله ومعنوياته ولله الحمد، بعد معاناة مع أمراض القلب وضعف البصر انتهى بفقد حبيبتيه قبل عشر سنوات ولله الحمد. فلم يجزع ولم يخنع ولم تتراجع همته الاجتماعية وكأنما ولد كفيفاً. بهدوئك المعهود.. غادرت الدنيا إلى غفور ودود،، أوردت الحياة حكمة وتأملا وصلاة وصوما،، وأخلصت فيها في كل شأن بلا حدود،، سعيت في خير القوم دهرا أينما حللت،، ثم ارتحلت سهلا يا أفضل أب (ربما) في الوجود. لاشك أن لكل أب مكانة عظيمة في قلوب أبنائه، وكل أب لأهله رجل عظيم، إلا من ابتلي. ووالدي - رحمه الله - كان ومازال له مكانة عظيمة في قلوب أهله وذويه ومعارفه عامة، وفي قلبي خاصة. فرغم وفاته بالطائف بعيداً عن مسقط رأسه حريملاء التي ولد فيها العام 1348ه، ناهيك عن ظروف جائحة كورونا، إلا أن الحضور رغم كثرته النسبية لا يقارن باتصالات التعزية بوفاته، استمرت أكثر من عشرة أيام وانتهت على استحياء. بدأ والدي حياته كاتباً للضبط في وادي الدواسر، ثم عاد ودرس في المعهد العلمي سنة افتتاحه العام 1373ه، ثم التحق بكلية الشريعة ليتخرج منها 1378ه، وتخرج قاضياً ليعمل في ميناء سعود بالمنطقة المحايدة قبل ضمها للكويت. ثم تولى رئاسة محاكم القطيف حيث وجد منه سكانها العدل والتواضع، ثم العلا (سنة ونصف)، ثم مكةالمكرمة (عشر سنوات) ثم الجوف (سنة واحدة) ثم عرر (عشر سنوات) والأحساء (أربع سنوات) منهياً مسيرته القضائية العام 1414ه بالتقاعد والاستقرار في الطائف التي عشقها منذ عمله بمكةالمكرمة، وطالب مرات عديدة الانتقال إليها قاضياً أو في عضوية محكمة التمييز آنذاك في مكةالمكرمة دون جدوى. ولكن الله أراد له أن يعمل في المناطق النائية التي يتجنبها الأكثرية حيث يحتاجه الضعفاء كما أحبهم. ومازلت أذكر جيداً كيف كان والدي يشارك عامل نظافة البلدية الشاي بالحليب على الرصيف بمنزلنا بشهار بالطائف. وفي الجانب التاريخي وحب الوالد للطائف فأدين بالشكر الجزيل للعم الأستاذ عبدالرحمن المعمر في مقاله الوافي في تأبينه جزاه الله خير الجزاء. كان بصدق ينطبق عليه الحديث الشريف «خيركم خيركم لأهله.» فكان في المسافات الطويلة يطلب منا تذاكر آيات القرآن للتعليم وأيضاً ليصرفنا عن العراك والإزعاج، ويشرح معانيها ويعرب كلماتها ببساطة وربطها بأحداثنا اليومية في تناسب مع عقولنا الصغيرة. كان السير معه إلى المسجد دورة تدريبية، والحديث معه في السيارة أو المنزل دروساً في التاريخ والأدب والدين، وكان رحمه الله يقول لي ولإخوتي عند وضع الحذاء له بعد الصلاة في المسجد، «كما تبر والديك سيبرك أبناؤك». قبل «عصر الطفرة» إن صح التعبير، لم يكن هناك «ازدواجية اجتماعية،» كما هي الحال اليوم، لكون بعض الآباء لا يود إظهار التبذل المشروع والتباسط البريء أمام أسرهم، فيلجؤون إلى الاستراحات والشلل الخاصة، وفي المقابل تترك الأمهات الأبناء لتربية الخدم. كان مجلس والدي يعج بضيوف تتلمذنا عليهم في الحكمة والتاريخ وقصص العدل والأحداث المعاصرة، والدروس الشرعية، تدور حول الإنصاف والحق والخوف من الله في تبني المنهج الشرعي، منهم الأمير فهد بن معمر، وتركي الناصر السديري وعبدالرحمن بن معمر وعبدالله بن مشاري السعدون، وستر اللحياني وعشق بن سلطان، وصالح الرويتع وسعد الرويشد، ومانع أبا العلا، والشريف حاضر العريفي والحسين القرشي، سعيد بافيل، سعيد باقادر، وفالح القرشي حفظ الله الحي منهم وتغمد برحمته من رحل. وكانت أيضاً لا تخلو من الترفيه البريء من تعليقات مهذبة مع بعض المقربين واسترجاع المواقف المسلية التي مروا بها خلال السنين ونوادر البلدان المجاورة والتاريخية. لا عجب، فقد كانت مجالس أمراء المناطق والمشايخ ورؤساء العشائر مفتوحة عامرة بالضيافة رغم قلة ذات اليد تلك الأيام وبشكل شبه يومي للضيوف والسائلين والمحتاجين ومن يبحث عن مواساة من هموم أو نصيحة حياتية أو دعم مالي أو معنوي، في تجسيد «لمؤسسة المجلس» في بلادنا الحبيبة التي تصل المواطن بولاة الأمر، فيجد فيها المواطن متنفساً فهي بمثابة (تاون هول) في المجتمع الغربي. إلى جانب وضعه الصحي المتدني، اُبتلي والدي محتسباً بوفاة اثنين من إخوتي (محمد عن 12 سنة بالدمام العام 1386، ومنصور 22 سنة 1404ه، وأختي أمل عن 34 سنة مع زوجها المعلم وابن عمها فيصل وابنتها نورة في حوادث أليمة، ومازال ابنها هيثم (4 سنوات) - شفاه الله - مقعداً يصارع الإعاقة على منحة كريمة من حكومة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -. حوادث تركت ندوباً عميقة في نفس والدي، وكان - رحمه الله - يحمد الله على قضائه وقدره ويدعو لهم ومن بقي من أهليهم بالرحمة. طالما حرصني والدي على الإخلاص في العمل، والعفاف والكفاف، وخلال سفري للخارج، على التعامل مع غير المسلمين بالرفق واللين لعلها تكون سبباً في هدايتهم. ذكرت له في مكالمة انتقالي من شقة لأخرى في أميركا حاملاً عفشي بسيارتي الصغيرة، «يا ولدي هكذا غادر الدنيا خفيفاً» يقصد من الذنوب. كانت مكالماتي معه تنتهي بنصيحة واحدة متكررة «أوصيك بتقوى الله،» كانت تهز وجداني هل أستطيع الالتزام بذلك وأنا أقول له إن شاء الله؟ اللهم أسكن والدي جنات الفردوس واحفظ لي والدتي الغالية وأعنّي على برها، والحمدلله رب العالمين.