يعجز القلم عن خطِّ العبارات المستحقة في رثاء الأم، لما لها من الفضل والمكانة، ومهما كُتب عن الأم فلن توفّى حقها إذ النقصُ من سمات البشر الفطرية، فشكرها واجب، وبرها فرض في حياتها وبعد وفاتها، كالدعاء لها والتصدق عنها وإكرام صاحباتها، وها أنا أرثي والدتي دليل بنت علي المشاري (أم خالد) رحمها الله وأستعرض شيئاً من حياتها، حيث ولدت في قرية العليا عام 1367ه، ونشأت وترعرعت فيها، مات والدها الجد علي وهي صغيرة فتولَّت والدتها الجدَّة حصة بنت محمد الماضي رعايتها بمشاركة أخيها خالي عبدالرحمن، حيث كانت تتردد ما بين بيته وبيت والدتها التي تزوجت من الشيخ أحمد بن عبدالله المنصور وتعاهدها عمُّها الشاعر المعروف سليمان بن مشاري وابنيه بالعناية والرعاية وكانت تُثني عليهم خيراً، فلما بلغت السادسة من عمرها انتقلت إلى بيت أخيها لأبيها بقرية العليا خالي عبدالرحمن المشاري بطلب منه، حيث بقيت عنده إلى أن تزوجها والدي في منتصف العقد الثاني من عمرها تقريباً، وكانت الربعيّة امرأة يقال لها: (أم عيسى) ومن عادتهم آنذاك استمرار مناسبة الزواج لمدة أسبوع، وكان الرجال (الجنَب) ليلة الزواج يقدمون بعد صلاة العشاء وبأيدي بعضهم (الأتاريك) لإضاءة الطريق، والعريس وأهله يمشون وسط المجموعة إلى أن يصلوا بيت الزوجة، والمحبة تغمر قلوب الجميع، وقد أنجبت لوالدي خمسة أبناء وست بنات، وكانت والدتي مضيافة تفوح بالضيوف صغارهم قبل كبارهم، وكانت على درجة رفيعة من الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة، صادقة اللهجة ذات صلاحٍ ظاهر مع حسن الطوية وسلامة النية، تصل المحتاج بمالها، وتحب إدخال السرور على الصغار بالكلمة الطيبة تارة، وبالهدية تارة أخرى، وتحرص على نصحهم وتوجيههم، ونصح ووعظ من تراه مقصِّراً في جنب الله، كما كانت واصلة لرحمها وتوصينا بذلك، وتحرص على زيارة المرضى من محارمها وقريباتها، كما إنها محبة لعمها الجد سليمان بن مشاري ابن علي، وتذكر من أخلاقه الفاضلة وما يكنه لها من محبة صادقة لها حتى كأنها ابنته، ومن تقواها وطاعتها اداء الصلاة أول وقتها، وكذلك أداء السنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل والوتر، وتحثنا على الصدقة والبر والصلة، والاجتماع والألفة. وكانت تتمنى معرفة القراءة لتقرأ القرآن وتغبط من يعرف قراءته، فالقرآن أُنسها حينما يُتلى عليها أو عندما تسمعه من إذاعة القرآن الكريم التي تحرصُ على متابعتها وتدعو لمن أنشأها وللقائمين عليها خيراً، فالمذياع لا يكاد يفارقها في آخر حياتها، ومن عظيم حبها لإذاعة القرآن أنها قالت لي أكثر من مرة: يا بني ادفع لهذه الإذاعة تبرعاً مالياً، لنشرهم الخير بين الناس وحرصهم على تعليم المستمعين، فأخبرتها أنها إذاعة حكومية تصرف عليها الدولة - حرسها الله - فدعت لولاة الأمر بالتوفيق والسداد وأن يجزيهم الله خير الجزاء لما يُقدِّمونه من خدمة للإسلام والمسلمين، وأتذكر صبرها على ما أصابها من أمراضٍ عديدة، لازمتها أكثر من ثلاثين سنة إلى أن توفاها الله، فقد أُجريت لها عدة عمليات قلب مفتوح للشرايين والصمامات، وزُرع لها جهاز تنظيم دقات القلب مرتين، وهي مع ذلك صابرة محتسبة الأجر من الله، ولقد عجبت لصبرها العظيم - رغم مرضها المستديم - عندما ابتُليت بوفاة ابنتها الكبرى الأخت الصالحة الجوهرة (أم عبدالله) إثر مرض ألزمها الفراش أكثر من خمس سنوات، وفقدت بعدها بقرابة ثلاثة أشهر زوجها والدي - رحم الله الجميع - وكانت أمنيتها الوحيدة في السنوات الأخيرة من حياتها مجاورة البيت الحرام إلى أن يتوفاها الله، ومما نظمته قولها: يا زين مكة ويا زين طاريها ليت من يقضي باقي العمر فيها ومازالت تعاني من شدة الأمراض وتعددها إلى حين إصابتها بفشل كلوي مزمن اضطرت معه إلى ملازمة العناية المركزة في مستشفى دلة بالرياض حتى توفاها الله مساء يوم السبت 19/1/1432ه الساعة التاسعة وإحدى عشرة دقيقة، وكانت مدة تنويمها في العناية المركزة قرابة شهر، وشاركت في تغسيلها العمة أم يوسف وأختي أم خالد، وصلى عليها جمع كثير بعد صلاة العصر يوم الأحد 20 محرم 1432ه، ودُفنت في مقبرة النسيم بالرياض وشيَّعها خلق كثير، وأنزلها في قبرها ووضع اللبنات ابنها كاتب هذه الاسطر وابن أخيها الأستاذ خالد المشاري، ولم نخرج من المقبرة إلا بعد أذان المغرب لكثرة المشيعين فيها، ولقد رؤي لها بعض الرؤى المبشرة -رحمها الله وأسكنها الفردوس الأعلى في الجنة آمين. عمر بن عبدالله بن مشاري المشاري