"اقرأ"! أوّل ما استفتحه الوحي من آي القرآن العظيم المُنزل على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولهذا الطلب دلالته التي تحثُّ الأمَّة على التعلم والقراءة. ورغم أنّ نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلَّم كان أُميَّا، فإنَّ أُمِّيتَهُ كانت معجزةً وشرفًا، إذ علم النبيُّ الأميُّ أمةً أنارت الدنيا، وأضاءت بعلمها جنبات العالم، قال تعالى: (اقْرأْ باسْمِ ربِّكَ الذي خَلَقَ.. خَلَقَ الإنسانَ مِنْ عَلَقٍ.. اقْرأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ.. الذي عَلَّمَ بالقَلَمِ)، بهذه الآيات بدأت رسالة الإسلام الداعية للعلم والقراءة سبيلاً لهداية البشرِ، ورُقيّ الأُمم. قديمًا، كانت حياة الناسِ يسيرةً، ليست بالتعقيد الذي يغلفُ عالمنا اليوم، فكان يكفيهم تعلُّم مبادئ القراءة والكتابةِ، وبعض العمليات الحسابية البسيطة، وكان الاتصال المباشر بالآخرين كافيًا لتلبية احتياجاتهم اليومية، ولم تكن الأميَّةُ نقيصةً تُنزل قيمة الشخص ومركزه الاجتماعي، فكانت المرحلة الشفوية هي الغالبةُ في تواصلات الناس حينها. ومع تعقد الحياة، وازدياد وتيرها، أصبحت الحاجة مُلحة للتعلُّم، فأصبح لزامًا مكافحة الأميَّة في كافة صُورها الكتابيَّة والقرائية وحتى الرقمية، في ظل ثورة معلوماتية جعلت العالم قرية صغيرة، بل جعلتُه في قبضة شاشة هاتفك! كانت الأميةُ قديمًا تقتصر على من يجهلون فكّ الرموز المكتوبة، فالأمِّيّ قديمًا هو من لم تُتح له فرصة التعلُّم، وقد عرّفت اليونسكو الأمّيّ بأنّه: (كل شخص لا يستطيع أن يقرأ أو يكتب - بفهمٍ - بياناً بسيطًا وموجزًا عن حياته اليومية) أنّ مفهوم الأميَّة يتطوّر مدلوله مع الزمن ومستجداته؛ فهناك الأميّة الأبجدية، والوظيفية، وكذلك الأميّة الثقافية، وهي الأشدّ انتشارًا في مجتمعاتنا، وكمْ من حاصلين على شهاداتٍ عليا، ولكنهم يرزحون تحت وطأةِ الأميَّة الثقافية التي تتبدّى ملامحها في محدودية ثقافتهم وإن تسنَّموا مواقع رفيعة في مجتمعاتهم. لست هنا بصدد رسم قاعدة للانطلاق إلى ما يسمى (اقرأ)، فقد شرعت دولتنا منذ زمن ليس باليسير ببذل الجهود لتحجيم نسبة الأميّة. فلا شكّ أن باستطاعتنا أن نتخلص من الأميَّة، فنبدأ بالدوائر الأسريَّة الضيقة، ونتوسع لنشمل المجتمع المحيط حولنا، حتى لا تبقى رقعةُ إلا ودخلتها شموس العلم، واندحرت عنها بُقع الجهل. وفي الختامِ نعود لنغرِفَ من ضياء الوحي، ومفتتحه (اقرأ)، ونؤكِّد أن تخصيص يوم الثامن من سبتمبر كُل عام ليكون يوم "محو الأمية" ليس كافيًا للتوعية بخطر الأميّة، فعيبٌ على أمَّةِ (اقرأ) أن تتراجع عن مسيرةِ مَنْ يتمتعون بحق القراءة. نحن أمة (اقرأ)، ولابد أن تكون القراءةُ سلوكًا حياتيًا، نسد به فراغ الجهل، وألا ننشغل بتوافه الأمور وسفاسفها، ولنتمثل آيات الكتاب الملهمة بالقراءة والتثقيف في شتّى المناحي، فلا استواء بين عالِمٍ وجاهلٍ، والله سبحانه يقول: (قُلْ هلْ يَسْتوِي الذين يعلمونَ والذين لا يَعْلَمونَ)؟ إنَّ الأمم الناهضة لا تتوقف عن طلب العلم؛ وأمتنا أحرى أن تقوم بذلك، فتلك مسؤوليتنا، علينا أن نُحرر مجتمعاتنا من سياقات التنمّر الساخرة من طلب العلم على كِبَرٍ، وأن ننفي تلك الأنماط الشعبية المنتشرة والتي تشكل تنمرًا لفظيًا نراه في مقولات، مثل "بعد ما شاب أرسلوه إلى الكُتَّاب"، فلا نقف حجر عثرةٍ أمام من يرغبون في إزاحة الجهل عنهم، فالتعليم في الأمم المتقدمة مستمرٌ لا يرتبط بزمنٍ أو عُمرٍ، بل علينا أن نُعلي المقولات المحفزة، مثل "اطلبوا العِلْمَ من المهدِ إلى اللَّحْدِ". علينا أن نجفِّف منابع الأمية في مجتمعاتنا العربية، ونتحرَّر من أعراض الأميّة التي تنشر الفقر والجهل والمرض. ذاك أملٌ ورجاء.. وبالسعي سيتحققُ يومًا، وإني أراه قريبًا!