إنها لإحدى الكبر ، أن يكون الرجل الأمي ، منبعاً للعلم ، وقائداً للرقي ، ومشعلاً للفهم ، ونبراساً يهدي العقول الحائرة ، ويؤثر على الفكر ، حتى صاغه ، وأنتج منه حضارة بزت الحضارات ، وحملت مشعلها من بعده قروناً . والحكمة في أميته صلى الله عليه وسلم ذكرت في قوله تعالى « وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون » . فأميته صلى الله عليه وسلم ، تقطع الزعم بأن يكون الوحي الذي أنزل عليه متلقى من علوم سابقة ، أو منقولا عن أحد من الأولين ، فهي دليل حسي واقعي على أن هذا الكتاب من لدن حكيم حميد . ولكن ينبغي أن يفهم أن المعجزة ليست في أمته ، بل هي خالصة له من دون المؤمنين . قال المأمون لأبي العلاء المِنْقري : بَلَغني أنك أمي ، وأنك لا تُقيم الشَعر ، وأنك تلحن في كلامك . فقال : يا أمير المؤمنين ، أما اللحن ، فربما سَبقني لساني بالشيء منه ؛ وأما الأمية وكَسْر الشعر ، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أميّاً، وكان لا يُنشد الشعر . فقال المأمون : سألتُك عن ثلاثة عُيوب فيك فزِدتني رابعاً ، وهو الجهل ! أمَا علمتَ يا جاهل أن ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فَضيلة ، وفيك وفي أمثالك نَقيصة ! فالعرب قبل البعثة المحمدية كانت حالهم يلفها الجهل والأمية والتخلف ، لا تعرف شيئا من الحضارة ، ولم يكن لهم علم في طب ولا هندسة ولا فلك ، ولم يكن لهم علم مقنن ، خلافا لما زعمه المحقق الألوسي رحمه الله ، كما بينه الكاتب الكبير أحمد أمين في كتابه " صبح الإسلام " وأشار إليه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قبله بقرون . فكان من مهمات الإسلام الأولى القضاء على هذه الأمية ، وطمس التخلف الرهيب المخيم على العقول ، حتى حجبها عن المعارف والعلوم ، في حين كانت كثير من الأمم تتمتع بجانب كثير منها . وقد لخص الرسول صلى الله عليه وسلم حال الأمة بكلمتين ليحدد بعدها رسالته ، فقال : إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب. ولعل هذا من أسرار ابتداء الكتاب الكريم ، والرسالة الخالدة بالأمر بالقراءة « اقرأ » لتبدأ مسيرة الإصلاح وعملية التصحيح والتعليم . وكيف تنجح مهمة الهداية والتعليم وإخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بالقضاء على الأمية ، وتعليم االناس الكتابة والحساب ؟ وبات هذا السعي لفكاك الأمة من أميتها واضحاً بعد النصر في غزوة بدر ، فقد كان من بين الشروط لمن أراد أن يفتدي نفسه من الأسر ، وهو لا يملك الفدية أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة . ومنذ بزغ فجر الإسلام ازدهرت القراءة والكتابة ، فصارت فناً حافلاً مقنناً ومنضبطاً ، كتبت فيها موسوعات ضخمة ، من أشهرها موسوعة ( صبح الأعشى في صناعة الإنشا ) للقلقشندي ، ومن قبله ( أدب الكاتب ) لابن قتيبة ، وشرحه للجواليقي ، وكتاب ( المثل السائر ) لابن الأثير الجزري الوزير ، وكتاب ( الفلك الدائر على المثل السائر ) لابن الحديد الفقيه المعتزلي ، وغيرها كثير. وفي القرآن دعوة إلى العلم ، وحث عليه ، وبيان لفضله ، وأنه يرفع صاحبه ، ويعلي منزلته ، ومن العلم تعلم الحساب ، ومعرفة الفلك ، وبيان ارتباط العالم السفلي بالعالم العلوي ، يقول الحق « هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب » وختامها « نفصل الآيات لقوم يعلمون » . ويقول الحق سبحانه ( وبالنجم هم يهتدون ) . ولهذا نبغ في التأريخ العربي الإسلامي كثير من العلماء الفلكيين متأثرين بتعاليم الإسلام ، وبنيت المراصد الفلكية في بغداد ودمشق والأندلس ، وازدهرت الحركة العلمية لتكون أكثر عوناً للمسلمين على أداء شعائرهم وبناء دنياهم. ولقد كان الإسلام حريصاً على ربط الدين بالدنيا ، وربط الشعائر الدينية بالظواهر الكونية والفلكية ، فالصلاة والصيام والحج بل والزكاة أيضا منوطة بظواهر حسابية فلكية . « يسألونك عن الأهلّة ، قل هي مواقيت للناس والحج » ولا ريب أن هذا من أهم الوسائل للقضاء على الأمية في الحساب. وهناك فرق كبير بين هذا وعلم التنجيم المذموم الذي يدعيه الكهنة والعرافون ، الذين يخبرون بالمغيبات دون الاستناد إلى شيء من العلوم التجريبية التي وصلت في زماننا هذا إلى درجة فائقة من اليقين والدقة. لقد طرح شيخنا العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في شرح كتاب التوحيد سؤالاً وأجاب عنه فقال : وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: لا ، لأنه أيضا يستند إلى أمور حسية ، وهي تكيف الجو ، لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم ، فيكون صالحا لأن يمطر، أو لا يمطر ، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب ، نقول : يوشك أن ينزل المطر . فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس ، فليس من علم الغيب ، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب ، ويقولون : إن التصديق بها تصديق بالكهانة . والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح ، كما قال السفاريني : فكل معلوم بحس أو حجا ... فنكره جهل قبيح بالهجا . انتهى كلامه رحمه الله . فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. إنما هو تشخيص للداء ، لنبحث له عن الدواء والعلاج الناجع ، وليس رضى بالجهل والأمية ، وأمرا بالبقاء فيهما . وتعلم الحساب ومنه الفلك من الفروض الكفائية على الأمة ، يأثم المسلمون بتركه ، ويعد القيام به وسد حاجة المسلمين به من أفضل الأعمال ، وذهب بعض العلماء إلى أن القيام بالواجب الكفائي الذي يعم المجتمع أفضل من القيام بالواجب العيني الذي يخص الشخص ، لكثرة نفعه وتعديه للآخرين. إن الدين الذي بدأ ب « اقرأ » لا يمكن أن يكون حجر عثرة أمام الرقي والتقدم والمدنية ، ولا يمكن أن تأمر تعاليمه الراقية بأن يبقى الناس في مؤخرة ركب الأمم يقتاتون على فتاتها العلمي ، ولا يمكن أن يأمر بالتنكر للعلم وينظر للأمم الأخرى وهي ترقى من كوكب لآخر ويطلب من أبنائه العيش داخل الحفر. إن الإسلام يتعامل مع كل زمان بناء على معطياته وإمكانياته ، فهو يساير كل الأحداث ويعيش معها ، ولا يتخذ الحقائق العلمية وراءه ظهرياً ، ليبقي أتباعه معلقين بحبال الماضي ، متشبثين بجذوره ، وعلى هذا مضى علماء الأمة . ولا يصح بحال أن نعض اليوم على قضايا نص عليها علماؤنا الأولون كانت لها أسبابها ودواعيها التي لا توجد اليوم . فمن تمسك برأي ولو أجمع عليه المتقدمون بناء على أسبابهم الخاصة بهم التي تغيرت اليوم لم يكن سائراً في ركبهم لأنهم قالوا بناء على معطيات لم تعد اليوم موجودة . فلماذا نؤثر عدم الإفادة من العلم والتقنية الحديثة ، التي لو ظهرت في زمن علمائنا المتقدمين لما تأخروا عن الأخذ بها ، وقد فعل هذا بعض أئمة المسلمين ، فحين بدأ علم الفلك ينتعش قليلا أفتى الإمام الشافعي الكبير أبو العباس ابن سريج بجواز الاعتماد عليه لمعرفة دخول شهر رمضان ، وتبعه على ذلك كثير من العلماء الفقهاء ، ولم يكن إجماع من سبقهم مانعاً من مخالفته ؛ لأنهم يعلمون أن معطيات الأمس ليست هي معطيات اليوم ، فإجماعهم بالأمس أجنبي تماماً عن حالنا اليوم وليس منه في شيء . والله تعالى أعلم .