دراسة التوجهات الدولية في العلوم والرياضيات والمعروف ب TIMSS    هوكشتاين من بيروت: ألغام أمام التسوية    أمير تبوك: «البلديات» حققت إنجازاً استثنائياً.. ومشكلة السكن اختفت    فيصل بن فرحان يبحث المستجدات مع بلينكن وبالاكريشنان    السواحة: ولي العهد صنع أعظم قصة نجاح في القرن ال21    «الوظائف التعليمية»: استمرار صرف مكافآت مديري المدارس والوكلاء والمشرفين    «الشورى» يُمطر «بنك التنمية» بالمطالبات ويُعدّل نظام مهنة المحاسبة    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة.. الأحد    نائب أمير جازان يطلع على جهود تعليم جازان مع انطلاقة الفصل الدراسي الثاني    السعودية ترفع حيازتها من سندات الخزانة 1.1 مليار دولار في شهر    التزام سعودي - إيراني بتنفيذ «اتفاق بكين»    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    المملكة تتسلّم علم الاتحاد الدولي لرياضة الإطفاء    دعوة سعودية لتبني نهج متوازن وشامل لمواجهة تحديات «أمن الطاقة»    خيم نازحي غزة تغرق.. ودعوات دولية لزيادة المساعدات    القافلة الطبية لجراحة العيون تختتم أعمالها في نيجيريا    فيتو روسي ضد وقف إطلاق النار في السودان    المملكة تؤكد خطورة التصريحات الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية    يوم الطفل.. تعزيز الوعي وتقديم المبادرات    ياسمين عبدالعزيز تثير الجدل بعد وصف «الندالة» !    تحالف ثلاثي جامعي يطلق ملتقى خريجي روسيا وآسيا الوسطى    تسريع إنشاء الميناء الجاف يحل أزمة تكدس شاحنات ميناء الملك عبدالعزيز    22 ألف مستفيد من حملة تطعيم الإنفلونزا بمستشفى الفيصل    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود الجمعيات الأهلية    العامودي وبخش يستقبلان المعزين في فقيدتهما    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    أمير القصيم يستقبل السفير الأوكراني    سهرة مع سحابة بعيدة    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدد من الفعاليات التوعوية والتثقيفية وتفتح فرصاً تطوعية    «قمة الكويت» وإدارة المصالح الخليجية المشتركة!    العصفور ل«عكاظ»: التحولات نقطة ضعف الأخضر    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    نجوم العالم يشاركون في بطولة السعودية الدولية للجولف بالرياض    25% من حوادث الأمن السيبراني لسرقة البيانات    أرامكو توسع مشاريع التكرير    ثقافات العالم    سفارة كازاخستان تكرم الإعلامي نزار العلي بجائزة التميز الإعلامي    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    وطن الطموح    كلب ينقذ سائحاً من الموت    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    تقنية تكشف أورام المخ في 10 ثوانٍ    نائب وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة لشؤون الدفاع بجمهورية نيجيريا الاتحادية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    سلطنة عمان.. 54 عاماً في عز وأمان.. ونهضة شامخة بقيادة السلطان    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    لبنان نحو السلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحي والقرآن والنبوة: قراءة نقدية في كتاب هشام جعيط 1 من 2 . المقدمة تختلف مع مناهج المؤلف في فصول تتضمن أشياء متناقضة
نشر في الحياة يوم 24 - 04 - 2000

أعرف الأستاذ هشام جعيط - شأن كثيرين من المهتمين بالدراسات الإسلامية - منذ السبعينات، حين ظهرت أطروحته: "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية". وكانت تلك الدراسة جديدة مقارنة بالأفكار التي كانت سائدة وقتها عن الحاضرة الإسلامية باعتبارها "مجموعات من المساكن والأسواق والسكك الضيقة والمتشابكة، والتي تسودها الفوضى، ويغادرها المعنى"" كما قال أحد المستشرقين. أما جعيط فقد ألّف في دراسته تلك بين بحوث تخطيط المدن، وبحوث الفئات الاجتماعية، وعلم الاجتماع السياسي - متميّزاً باستنطاق دقيق ونقدي للمصادر وبخاصة تاريخ الطبري، الذي ما يزال يملك تقديراً له دفعه في الكتاب الذي بين أيدينا لاعتبار تفسيره للقرآن التفسير الوحيد الذي يستحقُّ الاعتبار!. يومها أسيتُ لأنه لم يستخدم بحوث الفقهاء المسلمين في المصر ومعناه ووظيفته وتأصّله في الاجتماع الإسلامي الأول، فتكون الأطروحة كاملة وجديدة تماماً. بيد أن شهرة الأستاذ جعيط ما ترسّخت لدى الشبان العرب إلا عندما أصدر كتابيه عن "أوروبا والإسلام" و"الشخصية العربية - الإسلامية والمصير العربي". ففي أولهما كان هناك طرحٌ جديدٌ للإشكالية، رجع فيه للمثقفين الأوروبيين "الأصليين" أو الرئيسيين إذا صحّ التعبير شأن إدوارد سعيد في ما بعد في كتابه: الثقافة والإمبريالية، وليس الى المستشرقين الذين يشترك مع محمد أركون في التقليل من شأن مناهجهم ودراساتهم عن مجالنا الحضاري، لكنه لا يشترك معه في غير ذلك!. أما بحثه المستفيض عن الشخصية التاريخية لأمتنا فقد مضى فيه عميقاً وبحميميةٍ لامست شِغاف القلب من دون أن تتردى في التقريظية أو الاعتذارية، وقبل ذلك وبعده من دون أن تتردّى في شباك الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا مثلما فعل كثيرون من عربٍ وأجانب منذ الستينات. وجاء أخيراً في التسعينات كتابه: "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر" الذي أعاد فيه النظر ليس في علاقة الدين بالسياسة كما ذكر في العنوان، بل في معنى وجود الأمة وصيرورتها عندما تعرضت وحدتها للتجربة في مخاض الرؤى المتباينة لمعنى السلطة والدولة ودورهما ووظائفهما في حقبة البزوغ والتأسيس.
غادر هشام جعيط الأكاديمية المدرسية منذ كتابه الأول عن مدينة الكوفة، منصرفاً الى استكشاف أبعاد الظواهر التاريخية والحضارية الكبرى بمنهج "تاريخ الأفكار" أو "التاريخ الثقافي". وأفاد في ذلك من اطّلاعه الواسع على الفكر الأوروبي الفرنسي خصوصاً، لكنه ليس فوكوياً، وتواصُله العميق مع الفكر العربي الإسلامي، وقدرته الفائقة على التعبير الدقيق بالفرنسية عن الفكرة أو الخاطرة التي تعرضُ له بغير غموضٍ كذلك الذي يعرفه اللسان الأدبي الفرنسي. لذلك استبشرتُ خيراً عندما ذكر لي بعمّان نهاية الثمانيات أنه يفكر في كتابة سيرةٍ "سياسيةٍ" للرسول صلى الله عليه وسلم، ورجوتُ أن يقول جديداً مفيداً وكاشفاً كعادته. وازددت ثقةً بقدرته على ذلك بعد صدور كتابه عن "الفتنة"، بل رحتُ أتجرأ بالاقتراح عليه أن يمضي وراء ما جرى انجازُهُ في الحقبة الحديثة، ذكرت له أن محمد حسين هيكل قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره رجلَ دولة، وقرأه العقاد باعتباره بطلاً كارزماتياً على نهج توماس كارلايل في كتابه: الأبطال وعبادة البطولة، وفهمه عبدالرحمن الشرقاوي باعتباره قائد حرب تحرير شعبية، وقرأه محمد الغزالي ومحمد سعيد رمضان البوطي باعتباره قدوةً ونموذجاً وشارعاً... الخ. لهذا كله خالجني الكثير من الاندهاش والتعجُّب عندما تصفحت كتيبه الصادر قبل أشهر في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، 1999. فقد تصفحته أولاً في أمسية واحدة 139 صفحة مع الحواشي المكتوبة بعد كتابة الكتاب ولا شكّ، ثم أعدتُ قراءته في اليوم التالي، فانتهت دهشتي الى خيبة أمل واحباط. وتركتُ الكتاب لعدة أشهر، معزياً نفسي بأنه جزء أول من عدة أجزاء، وأنه في الأصل - كما ذكر جعيط - محاضرة، مُدّدت بعض الشيء ووُضعت لها حواشٍ، لذلك سيتمكّن الأستاذ جعيط من الإمساك بزمام الموضوع من جديد في اللاحق من الأجزاء. لكن عبارةً وردت على غلاف الكتاب، وجاء جزء منها في المقدمة، ظلت تتردد في خاطري طوال أكثر من شهرين، فدفعتني لكتابة هذه المراجعة النقدية، وعدم انتظار الأجزاء التالية. قال المؤلف على الغلاف: "هذا الكتاب وما سيتبعه من أجزاء، كتابٌ علمي وليس بالدراسة الفلسفية، ومعطياته هي لبّ الدين الإسلامي: الوحي، الإيمان، والبعث... ومحوره هو الوحي والقرآن والنبوة، لأنّ الوحي والقرآن والنبوة هي أصل كل شيء، وقد بقيت العمود الفقري للحضارة الإسلامية على طول الزمن التاريخي". ومعنى ذلك - أو هذا ما فهمته - ان الأستاذ جعيط ما كتب ولن يكتب عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الرسالة التي حملها، ولا عن الأمة التي حملت تلك الرسالة منذ المبعث، بل سيقرأ قراءة تفهّمية - على غير عادته في كتبه الأخرى - العقائد الإسلامية الرئيسية كما يعرضها القرآن، بحسب فهمه هو لها، وتلك مهمة مختلفة تماماً عن عنوان الكتاب: في السيرة النبوية. ثم انها مهمة لا أظنه هَيّأ نفسه لها، لأن الكتاب جاء في الحقيقة مجموعة من الخاطرات والأفكار والرؤى، المصوغة على عجل، التي يسودها التكرار والتقطُّع والتعجُّل، والزهد والتزهيد في فهم المتلقين من المسلمين الأوائل للرسول وللرسالة على حدٍّ سواء.
المنهج العقلاني التفهمي
إذا كانت حواشي الكتاب قد أضيفت بعد كتابته بمدة، فلا شك في أن المقدمة متأخرة أيضاً عن الكتاب / المحاضرة. ولستُ أعني أن في ذلك عيباً أو خطلاً. بل ما أقصده أن المقدمة تتناقض مع منهج أو مناهج المؤلف في فصول كتابه. بل انه قال فيها عدة أشياء متناقضة. قال أولاً وثانياً ان منهجه في الموضوع هو المنهج العقلاني Rational التفهمي Verstehend أي على طريقة ماكس فيبر M.Weber في تفهم "سوسيولوجيا الأديان الكبرى": الصينية والهندية واليهودية. وقد أفاد الأستاذ جعيط كثيراً فعلاً من فيبر أحياناً بشكل مباشر1، وأحياناً بالواسطة عن طريق Adolphe Lods2. لكنه وفي المقدمة نفسها خالف المنهج التفهّمي ذاهباً الى استنتاجين متناقضين، قال ان الدين كدين لا علاقة له بالدولة، ثم ذكر ان المسيحية والإسلام "نجحا" بالدولة: المسيحية لأن الدولة تبنتها، والإسلام لأنه أنشأ دولة خدمته ونشرته على مدى أربعة عشر قرناً. لكنّ الإسلام - من وجهة نظره - لم "يندسّ في الدولة"، خلافاً للمسيحية، ولذلك حافظ على جوهره، ثم انه لم يزُلْ بزوال الدولة كما حدث مع أديانٍ أخرى كالزرادشتيّة يسمّيها المزدائية وهي تسمية فرنسية من القرن الثامن عشر. لكن لم أفهم الفرق بين المسيحية والإسلام في علاقتهما بالدولة: فجوهر المسيحية تكوّن أيضاً قبل "اندساسها" في الدولة، كما أنها لم تَزُلْ بزوال الإمبراطورية الرومانية المقدّسة.
في الفصل الأول يلقي المؤلف نظرة تفهمية على معنى الوحي، وأهميته في الإسلام / الدين. وبعد أن يقارن هذا المفهوم القرآني بنتاجه الكتاب عند اليهود والمسيحيين، ينتهي الى أن "التكشُّف" ويقصد به إيضاح معنى التجلّي الإلهي للنبي من أجل تنزيل الوحي عليه: "يبدو في المسار النبوي كحدث الانطلاق الاستثنائي، بينما الوحي سيأتي بانتظام". وهو يرى أنّ القرآن والمسلمين على حدّ سواء يعتبرون التوراة من الكتب المُوحاة، لكن هناك فرقٌ بين الطرفين في تقدير القداسة للنصين، لأنّ المسيحية حَدَثها الأهم شخص المسيح نفسه، واليهود يقدّسون بالتحديد الأسفار الخمسة الأولى التي ينسبون زمن انزالها الى النبي موسى. لكن في الحالتين فإنّ التوراة والإنجيل عند الطرفين لا يلعبان الدور نفسه الذي يلعبه القرآن المتلوّ في اعتقاد المسلمين وحياتهم.
وينشغل جعيط في الفصول من الثاني الى الثامن بشرح أو تفهّم طريقة تلقي النبي صلى الله عليه وسلم للوحي، أو علاقة الإنساني بالإلهي. ومجمل نظرته للأمر أنّ الوحي الصائر قرآناً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، وانه ما كان ممكناً أن يتجلّى الله سبحانه له. وهو يقارن في ذلك من خلال فيبر بين الوحي لدى أنبياء بني اسرائيل، ولدى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيلاحظ شبهاً بالخصوص بين النبي موسى والنبي محمد من هذه الجهة. فكلاهما لم ير الله جهرةً، وكلاهما تلقى وحياً صار كتاباً بل ان التقليد اليهوي يذكر أن الألواح - ألواح العهد - التي أنزلت على موسى كانت مكتوبة بإصبع يهوه. فملاحظة فيبر القائلة ان الأساس في الكهانة والسحر الرؤيا والتخيل، وفي النبوة السمع والتعقل، تستحق المتابعة والتأمل. لكن ما كان هناك داع لهذه الحيرة أو التساؤل عن ماهية تواصُل النبي مع الإلهي، وعن كيفيته أو أشكاله. فالقرآن يذكر أن موسى خرّ صعقاً عندما التمس أن يرى الله عزّ وجلّ سورة الأعراف / 143 والتوراة وفيبر يذكر ان شجرة العلّيق واشتعالها امارةً على الحضور القدسي، وبدء سماع الوحي. أما الكيفيات التي يحارُ فيها جعيط طويلاً فهي واضحة في القرآن، وهو يقول انه يعتمد على استنطاق النص القرآني وحسب في "تفهّم" ذلك. فقد جاء في القرآن سورة الشورى / 15: "وما كان لبشرٍ أن يكلّمه الله إلا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسلَ رسولاً فيوحِي بإذنه ما يشاء إنه عليٌ حكيم"" أي بطريق الإلهام في اليقظة والمنام، أو يسمع صوتاً ولا يرى صورة، أو عن طريق الملك كما يقول المفسِّرون، ومنهم الطبري الذي يُقدّرُهُ جعيط. فأين المستنكر غير المقبول في الحديث الثاني في أول صحيح البخاري حديث بدء الوحي يأتي ثالثاً عن عائشة عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس - وهو أشدُّه عليّ - فيفصم عني وقد وعيتُ عنه. وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصّد عرقاً. فهو على رغم رفضه للتراث التفسيري لا يصلُ لأكثر من ذلك عندما يعرض للمسألة من خلال مشهدي التجلّي أو الانكشاف - كما يقول - في سورتي التكوير والنجم. ففي أولى الآيات تصريح أنّه بلّغه الوحي عن طريق "رسول كريم" و"مطاع ثم أمين" أي أنه مؤتمن على ما يبلّغ. وفي الثانية ليس هناك إيهامٌ في قوله عز وجل "فأوحى الى عبده ما أوحى" لمن يعرف اللغة العربية فالضمير في "أوحى" وفي "عبده" يعود الى الله المُوحي، وليس الى جبريل، بل الملك هو الواسطة. فإذا ذهب الكاتب بعد ذلك كلّه الى أنّ القرآن يتجنب التعبيرات التوراتية التي تُوهم تجسيماً، فماذا يقال عن عباراته هو" من مثل: "ولئن يُنعت جبرائيل بشديد القوى فهو منبثقٌ عن الله أو هو الله في مظهر قوته الخارجية...!" ص 64. ومن مثل "ولعل هذا التحليل يفسّر غموض رؤيا سورة النجم، لأن الذي تجلّى فعلاً هو الله وليس بالله لأنه منفصلٌ عن الذات الإلهية في هويتها الكاملة الصميمية، لكنه يبقى في العالم السماوي!" ص 65. وكان الأستاذ جعيط قد ذكر في المقدمة أنه تردد في الكتابة بالعربية لفقرها فيما يريد التعبير بها عنه من مفاهيم، وأنا أرى هنا أنّ الشكوى منه وليس من العربية، فليتك يا أستاذ كتبتَ بالفرنسية فأرحْت قرّاءك من هذه الصميمية غير الصميمة!
الى هنا والخطب يسير، على رغم ضخامة الدعوى. لكنّ المؤلف، وهو يمضي في المقارنة بين ظواهر ومظاهر وأشكال الوحي والنبوة لدى اليهود وفي القرآن الاتهام بإضلال الشيطان، والاتهام بالجنون، والاتهام بالكهانة والشعرية، والاتهام بالتوهّم، والاتهام بالصَرْع3، يتعرض بالنفي القاطع لمسألتين: حديث بدء الوحي في الغار، وأمية النبي.
أما "حديث الغار" فيرفضه هشام جعيط لثلاثة أسباب: أنه خبرٌ مُسند، وهو لا يرى أنّ الخبر التاريخي مقبولٌ إذا جاء مُسنداً! وهذا الأمر سأعود اليه في ما بعد.
والسبب الثاني أنه يشبه خبر التوراة عن صراع يعقوب مع "إيل" أو "يهوه"، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم "تصارع" مع جبريل عندما قال له: إقرأ، فأجابه: ما أنا بقارىء، مرتين أو ثلاثاً بحسب الروايات. وهذا مُشعِرٌ بأن النبي صلى الله عليه وسلم أُرغم على تقبّل الوحي، وكان يعاني من ذلك شدّة، والمشهدان في سورتي التكوير والنجم لا يدلان على ذلك. أما الشبه بين الحديث والتوراة هنا فغير ثابت، لأن ذاك كان يهوه، وهذا جبريل. ثم ان معاناة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بالقرآن "يا أيّها المدثر" و"يا أيها المزّمّل" مثلاً، وفي سورة المزمل بالذات هناك قوله تعالى: "يا أيها المزمّل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا. إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا" 1 - 6. ثم من قال ان العناء الذي تصفه الأحاديث في تلقي الوحي، ما كان مصحوباً بسعادة نتيجة الإحساس بالقرب من الجلال الإلهي؟ وهذا الجانب أيضاً تؤكده الأحاديث والمرويات. ففي أسباب نزول سورة الضحى "والضحى والليل إذا سجى. ما ودّعك ربُّك وما قلى. وللآخرة خيرٌ لك من الأولى. ولسوف يعطيك ربك فترضى" أنّ النبي صلى الله عليه وسلم شعر بقلقٍ شديد عندما فتر الوحي بين ستة أشهر وثلاث سنوات الى أن نزلت عليه سورة الضحى.
ويضيف جعيط سبباً ثالثاً للتنكّر لحديث الغار: ان نفرة النبي صلى الله عليه وسلم من المَلك في الحديث المراد بها الإشعار بأنه ما كان متوقعاً للوحي والنبوة، وان الاصطفاء كان بذلك إلهياً خالصاً. فالنبي مجرّد مبلّغ، والقرآن موحىً لفظاً ومعنى، وفي ذلك تقليلٌ من شأن النبي ودوره! بيد أن المفهومين: الاصطفاء الخالص، والبلاغ، مفهومان قرآنيان واضحان بالنسبة لنبيّنا ولسائر الأنبياء والمُرسلين: "يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربّك، وان لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس..." سورة المائدة / 67، و"الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله" سورة الأحزاب / 29. فالاصطفاء والتبليغ في نظر القرآن والمسلمين طبعاً شرفٌ ما بعده شرف، وهما ينطويان على مخاطر وصعوبات تصل الى الاستشهاد أو القتل، ليس من جانب الأمم التي يُرسَلون اليها وحسْب، بل من جانب المُرسِل عزّ وجلّ أيضاً إذا أخلَّ المُرسَل بالموجبات والمقتضيات: "ولو تقوّل علينا بعد الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطَعْنا منه الوَتِين. فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين" سورة الحاقة / 44 - 46 - ومثل يونس في القرآن واضحٌ لهذه الناحية. ولذلك فتصوّر الأستاذ جعيط للمسألة من هذه الجهة فيه توهّمٌ شديدٌ أيضاً. ومسألة منزلة النبي الرفيعة في القرآن، وفي الميراث الإسلامي، غنيةٌ عن البيان، وسنعود لبعض وجوهها في ما بعد.
وأصِل الى المسألة الأخرى، مسألة أميّة النبي صلى الله عليه وسلم التي يثور حولها جدلٌ كثيرٌ منذ أكثر من مائة عام بعد أن أعاد طرحها المستشرقون. بل ان لدينا وثيقة تُثبت ان الجدل حولها أقدم بكثير. فهشام جعيط يرى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان قارئاً كاتباً، وأنه ليس في القرآن ما يدل على عدم معرفته القراءة والكتابة! كما يرى - ما يراه المستشرقون - أنّ معنى الأميّ، والأميين: النبي غير اليهودي، والأمم غير الكتابية، لأن النبوة كانت حتى ذلك الحين في بني اسرائيل" "وهذا منعرجٌ خطيرٌ جداً في مجرى التوحيدية السامية لأنه أخرج العلاقة بالإله الحق عن سُلالة الشعب المختار وتراثه مع الاعتراف بهذا التراث..." ص 44.
كما يذكر أن لكلمة أمّي وأميين مقابلاً بالعبرية، وهو "أمم عُلام" أي أمَم العالمين من غير بني اسرائيل ص 43. وهو لا ينكر أن معنى الأميّ بالعربية مَنْ يجهل الكتابة، لكنه يستشهد على اقتضاء السياق القرآني للمعنى الآخر بالآية الواردة في سورة آل عمران 20: "وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم"، وبالآيتين الواردتين في سورة البقرة 78 - 79: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وان هم إلا يظنون. فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم، وويلٌ لهم مما يكسبون".
وفسّر الطبري 1/373 - 377 الآيتين بقوله: الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم. فالأمية هنا ليست جهل الكتابة بل جهل الكتاب المقدّس. ويعترف الطبري بأن هذا التأويل مُخالفٌ لكلام العرب جهل الكتابة" لكن التفسير واضح: هم يهود لا يعلمون الكتاب فيصبحون كغيرهم من الأمم الذين لم يأتهم كتاب ص 116 - 117. وبالعودة الى المعاجم اللغوية، والى سياقات سائر الآيات التي يُذكَرُ فيها المفرد صفة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للأمم ومنهم العرب والمسلمون، نجد أن المفرد يعني في مواطن: عدم معرفة الكتابة، وفي مواطن: الجهل ضد العلم، وأخيراً: غير أهل الكتاب اليهود في السياق السابق. ومع ذلك فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يُحسنُ القراءة والكتابة فعلاً وبنصّ القرآن. انظر قوله تعالى "وما كنت تتلو من قبله من كتابٍ ولا تخُطُهُ بيمينكَ إذاً لارتاب المُبْطِلون" سورة العنكبوت / 48.
لذيك يتعيّن الذهاب واستناداً الى منطوق القرآن الى أن النبي محمداً ما كان يُحسن الكتابة والقراءة، وأنّ مفرد "أميّ" من ألفاظ المشترك، أو ما يسميه علماء القرآن: ألفاظ الوجوه والنظائر، وهي المفردات التي تختلف معانيها أو تتعدد بتعدد مواضع ورودها في القرآن. وقد حدثتْ قصة طريفة لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي 403 - 474ه العالم الأندلسي المعروف ملخّصها أنه قرىء عليه في مجلس من مجالس دروسه الحديث الوارد في صحيح البخاري عن صلح الحديبية، وفي احدى رواياته رواية اسرائيل عن أبي اسحاق عن البراء بن عازب أنه عندما جاء سهيل بن عمرو من قِبَل المكيين ليكتب كتاب الصلح بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين: "كتب علي بن أبي طالب بينهم كتاباً فكتب محمد رسول الله، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله لو كنتَ رسولاً لم نقاتلك! فقال لعلي: امحه، فقال علي: لا والله لا أمحوك أبداً! فأخذ رسول الله الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله...". ففسّر الباجي الحديث بأن النبي كتب فعلاً، وأنّ ذلك كان معجزةً له لأنه في الأصل أميّ. فلما كثر الرادّون عليه كتب رسالة في ذلك ذهب فيها الى أن الأميّة بمعنى عدم معرفة الكتابة كانت معجزة إبان بعثة الرسول حتى لا تقوم الشبهة بأنه كتبَ القرآن من عنده" لكن بعد استتباب أمر الإسلام، تعلّم النبي القراءة والكتابة" إذ لم تعد تتوافر في "الأمية" شروط المعجز، التي حدّدها بالأمور الآتية: أن يكون أمراً خارقاً للعادة، وأن يكون معه دعوى الرسالة، وان يتحدى به من هو دليلٌ عليه، وأن يقارن الإتيان به معنى الرسالة، وأن يكون بينه وبين مدعي الرسالة تعلّق، وأن يكون موافقاً لدعواه غير مناقضٍ له ولا مكذبٍ به، وأن يكون جنسه غير داخلٍ تحت قدرة العباد4.
وتوقف المهاجمون بعد ذلك عن تكفيره، لكنهم أصروا على أنها كانت زلّة من زلاّته جرّه اليها الجدال وحُبُّ الغلبة والشهرة. والمعروف أن المستشرقين إنما أنكروا أميّة النبي بمعنى عدم علمه بديانات أهل الكتاب لأنهم كانوا يذهبون الى معرفته الجيدة باليهودية والمسيحية وأخذه عنهما. لكن المقصود في السياق الذي ذكره جعيط واضح وهو أنه عليه الصلاة والسلام نبيٌّ من غير بني اسرائيل، ومبعوثٌ للناس كافة الذين كان اليهود يصمونهم بالأميين، بمعنى غير ذوي الدين أو الوثنيين.
والمعروف أن هناك عدة آياتٍ قرآنية تفيد عموم بعثة النبي، كما أنّ هناك حديثاً صحيحاً مشهوراً ضمن أحاديث "خصائص النبي" جاء فيه: "وكان كل نبيّ يُبعثُ الى قومه خاصة وبُعثت الى الأسود والأحمر" أو "الى الناس كافة"5.
مصادر
1 كتاب ماكس فيبر: اليهودية القديمة" في: Max Weber, Gerammelte Aufzaetze zur Religiossociologie III Das Antike Judertume, Mohr. Tubingen. 1976، وقد رجع الأستاذ جعيط الى ترجمة فرنسية للكتاب صادرة عام 1998م.
2 رجع جعيط الى كتابين من كتب Lods أولهما بعنوان:
اسرائيل، من الأصول الى القرن الثامن قبل الميلاد. والثاني بعنوان: أنبياء اسرائيل وبدايات اليهودية. وأرجع هنا للمقارنة الى طبعة للكتابين صادرة عن 1969، Albin Michel.
3 يردّ هشام جعيط على بعض المستشرقين الذين تحدثوا عن حالة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها حالة صرعية مرضية، وهو الرأي نفسه ليست حالة مرضية الذي توصل اليه مرسيا إلياد في "تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية" في تأمله للأنبياء اليهود. إذ قال ان ظواهر استلاب أو انجذاب أو تركيز كهذه، لا يمكن اعتبارها ظواهر مرضية، والمعاصرون كانوا يعتبرون هؤلاء "مختارين" أو مصطفين، بخلاف الرائين والكهان والسحرة الذين يمكن اعتبارهم مرضى لتلبس الشياطين والأرواح لهم.
4 أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي: تحقيق المذهب في أن النبي قد كتب. تحقيق أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري. عالم الكتب بالرياض. الطبعة الأولى 1983 - ص 170 وما بعدها.
5 أورد الباجي كل الأحاديث التي تفيد كتابة النبي صلى الله عليه وسلم، من مثل ما مات رسول الله حتى كتب وقرأ. لكن هناك حديثٌ صحيحٌ نصه: انا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وهناك أيضاً إجماع على عدم معرفة النبي الكتابة، يستند الى النص القرآني السالف الذكر فوق. فلم يبق إلا اعتبار مفرد أمي من ألفاظ المشترك كما سبق أن ذكرت.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.