أشرقت شمس الصيف الساطعة جدًا فوق رحاب سماء تلك القرية البسيطة من بلاد الكونغو الإفريقية، إنه نهارٌ مشمسٌ وجميلٌ من صيف عام 1884، غادرَ الأبُ الجديد كوخه الصغير بعد أن أودع ابنته المولودة قبل بضع ليالٍ لحضن أمها الشابة، كانت قد نجت بمعجزة من الوفاة أثناء الولادة المتعسرة، وهي وفاة كانت تحدث لأكثر من ربع الأمهات اللاتي يلدن هنا في ظروف لا تعرف معنى التطبيب ولم تختبر قط رائحة المعقمات، كان عليه أن يسرع لسوق القرية حيث يبيع بضاعته القليلة من جلود الحيوانات التي اصطادها بالأمس, وأمضى الليل يسلخها ويدبغ جلودها، برغم الأوضاع الصعبة كان الِبشر والتفاؤل يُفعمان قلبه، فصغيرته الحبيبة تملأ روحه حبورًا، علم أن ليس ثمة مستحيل ومادام الله قد أنعم عليه بصحته ويديه، فسيعمل جاهدًا لإطعامها وتأمين حياة كريمة على قدر ما عرفت تلك البلدان الفقيرة من معنى لكرامة العيش، لم يكن بمقدوره لا هو ولا أي من سكان القرية ولا كل تلك القرى والبلدن التي تجاورها أن يتنبأ بأي عاصفة قادمة لتغرق البلاد بطوفانها، وأي كرب عظيم سيحل عليهم حاصدًا الأرواح بلا رحمة! في مجلس فاخر، وفوق كراس مذهبة عالية مزخرفة كأنها عروش نصبت لملوكها، جلس القوم وسيماء الأهمية والخطورة التي تدور حولها مناقشاتهم تنضح بها وجوههم، فيما اختنق الهواء حولهم بدخان التبغ، وبحدة الآراء المطروحة حول المائدة، كان ذاك هو مؤتمر برلين الذي انعقد في يوم مكفهرّ من عام 1885، لقد تمت مؤخرًا اكتشافات مذهلة وعظيمة الأهمية، حيث جلس رؤساء العالم الحر - ذاك العالم الذي بذل الرخيص والغالي ليطلق عليه مسمى الحر- من ملوك بلجيكا وألمانيا والبرتغال وأوروبا وفرنسا، كانت القارة الإفريقية السوداء الفياضة بثرواتها الخام المستقاة من رحم الطبيعة مباشرة دون أن تعبث بها يد إنسان هي الاكتشاف العبقري الجديد، كنز عظيم يسيل لعب أي صياد ماهر، وهم ما كانوا أكثر من صيادين ذوي مهارة وخبرة، كلهم أراد حصة من الكعكة الإفريقية اللذيذة، كلهم كان وراءه شعب ودولة تُبنى واختراعات تُستحدث وعلماء يطالبون بالمواد لاستكمال بحوثهم التي ستعود على بلدانهم بخير عظيم،أرادوا المعادن، أرادوا الحبوب والنباتات، أرادوا المطاط من الِأشجار الإفريقية الخصبة به لاستخدامه في صناعة الإطارات، لكن أكثر شيء أرادوه واحتاجوه هو الأيدي العاملة بالتكلفة البخسة أو بدون تكلفة على الإطلاق، ومن يوفر لهم كل هذا غير القارة السمراء العذراء؟، اقترعوا وتنافسوا وتناقشوا وحاولوا العدل فيما بينهم قدر ما استطاعوا، وفي النهاية وقعت الكونغو تحت يد ملك بلجيكا ليوبولد الثاني، وهو من أوائل من دعا لهذا المؤتمر أساسًا، وكانت تجول عقله المنعم المسترخي أفكارًا عظيمة، وعظمتها تكمن في مصلحة بلاده بالطبع، وما كان ليعنيه ذرة من أمر تلك القردة السوداء التي تعج بها القارة ويطلقون عليهم اسم البشر! هكذا أعلنوا للعالم أن المثقفين الأحرار الذين هم أنفسهم بطبيعة الحال، سيتفضلون وينعمون على هذه البلاد الجاهلة بالنماء والخيرات وسيتعهدونها بالعلم والكشوفات حتى تتقدم وتزاورها الحضارة، هكذا كذبوا وهكذا ادّعى العالم تصديق كذبتهم فيما عرف الجميع الأطماع الحقيقية خلف كل تلك المزاعم. أنشأ ليوبولد القوة العسكرية الاستعمارية، والتي غطى سمومها بالعسل والشهد وغير اسمها للقوة الشعبية حتى يكون اسمًا أرق وأنبل تسجله صفحات التاريخ لأجله، كانت تتكون أساساً من مرتزقة الكونغو الذين ما عرفوا الرحمة ولا الشفقة في حياتهم قط، وتحت تأثير المال المُغدق عليهم فعلوا كل ما طُلب منهم، حولوا كل قرية، وبلدة من الكونغو إلى مستعمرة عبيد تجني المطاط لأجلهم، مخلوقات لا تعرف الراحة أو الاستكانة، تصل ليلها بنهارها تحت أشجار المطاط بأوعية خشبية تجمع السائل الذهبي الثمين لأجل عيون بلجيكا العظيمة، في البدء فرضوا عليهم الضرائب الباهظة، ولما عجزوا عن سداد ديونهم، استولوا عليها، وأحالوهم إلى عبيد في ممتلكاتهم الخاصة، مع الوقت والمرض والجوع فترت همة الناس، وحينها تفتقت فكرة نيرة من العقل البلجيكي ليمنع هذا التقاعس الخطير، لقد أعطى أوامره لكل المرتزقة بقطع يد أي بيت تظهر إمارات التكاسل في أهله.. ولا استثناء، قطعوا أيدي الأطفال والرضع والعجائز والشباب والشيوخ، حتى لم يبق بيت سلمت يد سكانه من البتر! في النهاية صارت الكونغو الحرة، الكونغو الخضراء، الكونغو ذات الزرع والسنابل وأطيار الصباحات الصيفية، صارت مجرد "أرض الأيادي المقطوعة"، وعرفتها الصحافة العالمية بهذا الاسم، وهلك أكثر من عشرة ملايين من مواطنيها. سنوات قليلات مضت، سنوات تغير فيها وجه العالم بالنسبة لذلك الوالد والأب الحنون، صار كل شيء يدور حول المطاط، حتى في أحلامه كانت الكوابيس تطارده، حلم أنهم جاؤوا لقطع يده، تلك اليدان التي اعتمد عليهما في إطعام ابنته وزوجته، حلم أنه يتركها وحيدة، صغيرته الغالية، وكان يستيقظ دائماً وقلبه يتفطر عليها، يأخذها وهي نائمة وقد غدت ابنة الخمس سنوات الآن، يجمع أطرافها في حضنه وكأنه يحميها داخل صدره الحنون من كل شرور العالم، قد يكون كل شيء تغير إلا فرحته بهذه الصغيرة الحبيبة، وكانت عيناها البنيتان اللامعتان كفيلتان بإذهاب أيما تعاسة تلم به، أي قطة وديعة هي، أي سعادة يلقاها وهي غافية فوق خفق قلبه. اسمه لانسا، التقطتْ الصورة المرفقة صحافية غربية، كان التعليق على الصورة يقول: "أبٌ يتأمل في ذهول قدم وكف ابنته ذات الخمس سنوات المقطوعتين، والتي قدمهما إليه المرتزقة بعد أن قتلوا الزوجة وأتبعوها بالابنة، وأتوا بأشلائها دليلًا على تنفيذ الأمر السّامي الموجه إليهم، وكانت جريمته أنه تقاعس عن جمع الكمية المطلوبة منه من المطاط " .