حظي الروائي ماريو بارغاس يوسا ولد عام 1936 في أريكويبا، البيرو بحضور واسع في العالم العربي قبل نيله جائزة نوبل في الآداب 2010. غالبية الكتّاب يحظون بحضور مماثل بعد الفوز بهذا اللقب الأدبي الرفيع. لكن أعمال يوسا كسرت هذه القاعدة، إذ وجدت طريقها إلى اللغة العربية قبل سنوات من"نوبل". ولا شك في أن الفضل الأكبر في ذلك يعود إلى المترجم المجتهد صالح علماني الذي ترجم للروائي"امتداح الخالة"،"حفلة التيس"،"قصة مايتا"،"ليتوما في جبال الأنديز"،"بانتاليون والزائرات"،"حرب نهاية العالم"،"شيطنات الطفلة الخبيثة"... وسواها من الأعمال، وصولاً إلى رواية"حلم السلتي"التي صدرت، أخيراً، بتوقيع علماني، عن دار طوى لندن، 2012. في هذه الرواية، التي تعد الأولى بعد فوزه بنوبل، يخوض يوسا مرة أخرى، كما هي الحال مع"حفلة التيس"، في صفحات التاريخ. وإذا كان يوسا قد أرّخ لنموذج الديكتاتور في تلك الرواية، فإنه في هذه الرواية الجديدة يدوّن سيرة مناضل عتيد. يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مستلهماً سيرة مناضل إرلندي هو روجر كيسمنت 1864 - 1916، ومستعيداً حكاية الكولونيالية الأوروبية في القارة السمراء وفي أميركا اللاتينية. خدم كيسمنت، كما تقول سيرته، في السلك القنصلي البريطاني، وتمتع بلقب"سير". كان يخفي خلف ديبلوماسيته الهادئة روحاً متوثبة، تواقة إلى الحق والحرية والعدالة. خلال عمله، كشف عن الفظائع التي كانت ترتكب في الكونغو في عهد الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، وفضح فظائع مماثلة وقعت في منطقة بوتومايو في الأمازون. ولم يكتفِ بذلك بل حاول، خلال الحرب العالمية الأولى، أن يحصل على معونة ألمانيا للثورة الإرلندية 1916، فرجع إلى وطنه بغواصة ألمانية، وقبض عليه، وأعدمته السلطات البريطانية بتهمة الخيانة التي تمثلت في التعاون مع الألمان لتحرير إرلندا الشمالية من سيطرة البريطانيين. تلك هي المحطات الرئيسة التي يتناولها يوسا في روايته المقسمة إلى ثلاثة فصول. في كل فصل يكشف الروائي عن جانب من شخصية هذا المناضل الذي يقبع الآن في سجن بينتونفيل، منتظراً تنفيذ قرار حكم الإعدام بحقه. وها هو، في تلك اللحظات القلقة، يتذكر ماضيه الحافل عبر سرد يجيد يوسا في ترتيب فصوله وتعرجاته ومنعطفاته. كان كيسمنت وفياً للإمبراطورية البريطانية. خدم في مستعمراتها لنشر قيم التحضر بين"السكان المحليين"الذين"كانوا يعبدون الأوثان ويأكلون لحوم البشر ويؤمنون بالخرافات والعادات البالية". لكن هذه الخدمة الطويلة فتحت عينيه على فظاعات ترتكب بحق هؤلاء السكان تحت عنوان التمدن والتبشير بالدين وبالقيم الأوروبية المتحضرة، الحديثة. لقد تفتح وعي كيسمنت، باكراً، حين اكتشف مفارقة بسيطة تدعو للشك. ففي حين تصدّر أوروبا إلى تلك المستعمرات"البنادق والخمور والصلبان والخرز الملون، فإنها تجلب من هناك، في المقابل، المطاط والعاج والأخشاب وجلود الحيوانات وغيرها من السلع الثمينة. فهل يمكن تحقيق التقدم المنشود بالبنادق والخمور، ونهب ثروات تلك البلاد البائسة؟ في مؤتمر برلين عام 1885 قُدمت الكونغو، التي تكبر بلجيكا مساحة بخمس وثمانين مرة، هدية إلى ليوبولد الثاني ملك بلجيكا. سرعان ما عهد الأخير إلى المستكشف هنري مورتون ستانلي قيادةَ حملة لإقناع سكان الكونغو"الفقراء والمرضى والمتخلفين"بالنوايا الطيبة للأوروبيين الذين سيعملون على تحسين ظروف حياتهم، وتحويل أراضيهم الغارقة في الحزن والحرمان إلى فردوس. انضم كيسمنت إلى الحملة. ولم تمضِ فترة طويلة حتى اكتشف أن ستانلي كان محتالاً متمرساً، لا يتوانى عن ارتكاب أي فعل ضد السكان البسطاء. عرف كيسمنت، عندئذ، أن الهدف الحقيقي من الحملة هو فتح أراضي الكونغو أمام التجارة والنهب، وأن شعار الاستعمار في أفريقيا ليس"الحداثة ولا التمدن"، وإنما هو"السوط والجشع". ها هو كيسمنت يرى مواطنيه الأوروبيين يعاملون السكان المحليين وكأنهم مجرد كائنات مريضة تستحق الإبادة. قصص مروعة يكشفها يوسا. مشاهد التعذيب والقمع واختطاف الرجال للعمل بالسخرة، وفرض إتاوات على السكان المحليين بتأمين كمية معينة من المطاط الذي كان ضرورياً للصناعات الحديثة في أوروبا، تحتل صفحات الرواية. يكتشف كيسمنت كل هذه التجاوزات، ويحقق في كيف أن السكان المحليين ما هم إلا"شعوب في حقل الرماية"، يقتلون بلا ذنب، ويتعرضون لأبشع أنواع الإذلال والمهانة. يعرض كيسمنت مشاهداته في الكونغو أمام الرأي العام البريطاني، فيرقى إلى منصب القنصل العام، ليكلف، لاحقاً، بمهمة التحقيق في تجاوزات مماثلة ترتكب في الأمازون. يدخل كيسمنت إلى الجحيم من جديد ليواجه هذه المرة"شركة الأمازون البيروية"، العاملة في استخراج المطاط في منطقة بوتومايو في الأمازون. ما رآه كيمسنت في الكونغو يتكرر هنا أيضاً، وإنْ بنسخة معدّلة. السكان الأصليون في الأمازون، كذلك، يتعرضون، أيضاً، للجلد بالسوط، والحبس في قفص التعذيب، وصلم الآذان، وجدع الأنوف، وبتر الأيدي والأقدام، وصولاً إلى القتل بالشنق أو الرجم أو الحرق أو الإغراق في النهر. الذنب في مثل هذه العقوبات القاتلة هو تقاعس السكان، أو بكلمة أدق، عجزهم عن تأمين حصتهم اليومية من المطاط للشركة المستثمرة. تعج الرواية بقصص مماثلة. ودائماً يكون الشاهد عليها والمحقق فيها هو كيسمنت الذي وثق كل تلك الانتهاكات في تقريرين الأول عن الكونغو والثاني عن الأمازون. تقريران يظهران بشاعة الأساليب التي يستخدمها الأوروبيون في مستعمراتهم البعيدة. ولئن كانت هذه الموضوعة قد طرحت في مختلف الفنون كالسينما والرواية، وعولجت معالجات شتى، غير أن موقف يوسا، هنا، لا يحتمل أي تأويل. هو يندد بتلك الممارسات بصوت عالٍ، ويرثي لحال السكان الأصليين، ويقدم مرافعة إنسانية عن الجروح الغائرة التي أحدثها التوسع الأوروبي الكولونيالي. ولا يخفى على القارئ تقارب أجواء هذه الرواية مع رواية"قلب الظلام"لجوزيف كونراد الذي صادق، فعلياً، روجر كيسمنت، واعترف بأنه استفاد من تقرير الأخير حول الكونغو في كتابة روايته. لكن يوسا، هنا، يختلف عن كونراد في تسمية الأشياء بمسمياتها. يتحدث يوسا في الجزء الأول من"حلم السلتي"عن كونراد، ويقول على لسان راويه إن"قلب الظلام"تُحلل الفساد الأخلاقي بسلبية لدى البيض والسود على السواء، مضيفاً"أنا أظن أنها لا تصف الكونغو، ولا الواقع، ولا التاريخ، وإنما تصف الجحيم. الكونغو مجرد ذريعة لتقديم هذه الرواية الفظيعة". وفي حين أن كونراد لا يغفل عن انتهاكات الأوروبيين في أفريقيا. لكنه يلمح إلى أن الأوروبيين اكتسبوا هذا"الوحشية"نتيجة بقائهم لفترات طويلة في تلك البلاد، فاكتسبوا طبائع أهلها الخشنة. رد يوسا يأتي، بصورة غير مباشرة، على لسان إحدى الشخصيات وهي تخاطب كيسمنت:"إننا نحن الأوروبيين من حملنا إلى أفريقيا أسوأ الفظائع. إنك أقمت عشرين عاماً في الكونغو من دون أن تتحول إلى متوحش. بل إنك رجعت أكثر تحضراً مما كنت عليه". يجتهد يوسا في تدوين سيرة كيسمنت الذي لم يكتفِ بالتعاطف مع الشعوب المضطهدة، بل سعى إلى تحرير بلده فدفع حياته ثمناً لهذه القضية. السلطات البريطانية أرادت، بعدما أعدمته، أن تشوه صورته أمام أنصاره. ولئن تباينت الآراء بين من رأى فيه خائناً، ومن رأى فيه مناضلاً، بيد أن يوسا لا يتأخر في الإعلان عن انحيازه إلى الرأي الثاني ذلك أن كيسمنت كان يتمتع بنزعة إنسانية عالية مناهضة للاستعمار ومتعاطفة مع البسطاء والمهمشين و"المعذبين في الأرض"، وهذا العمل هو بمثابة تحية لذكراه.