هز العالم كله يوم الثامن من أيلول 1961 خبر مقتل داغ همرشولد، الأمين العام للأمم المتحدة، في حادث سقوط طائرة كان يستقلها شمالي روديسيا زامبيا اليوم. يومها انتهت التقارير التي وضعتها لجان كلفت التحقيق من قبل السويد، وطن همرشولد، والأممالمتحدة، وروديسيا الشمالية، الى القول بأن سبب الحادث خطأ غير مقصود اقترفه قائد الطائرة. بالنسبة الى السويد اعتبر همرشولد شهيد السلام العالمي، كما كان الكونت برنادوت ضحية الارهاب الصهيوني من قبله، وكما سيكون اولاف بالمه من بعد. هذا هو قدر السويديين الذين يتدخلون من أجل سلام العالم والصلح بين البشر. وهمرشولد كان في ذلك الحين يتدخل، وسيطاً، من أجل الوصول الى تهدئة الأمور في الكونغو التي كانت في ذلك الحين مشتعلة. الأوساط الرسمية العالمية والغربية اقفلت يومها الملف بسرعة معتبرة الحادث قضاء وقدرا، أما الاحساس العام فكان أن هناك مؤامرة ما وراء ما حدث، مؤامرة شارك فيها اطراف عدة من بينها الاستخبارات الأميركية والانكليزية وممثلو مصالح المناجم البلجيكية التي كانت تسيطر على اقتصاد الكونغو. واليوم بعدما يقرب من أربعة عقود ها هي الصحافة الانكليزية تقول ان ثمة اعتقادا يكاد يترسخ بأن سقوط طائرة همرشولد لم يكن حادثاً عارضاً، بل كان جريمة مدبرة. وهو ما كان قاله الكاردينال الجنوب افريقي دزموند توتو في وقت سابق من هذا العام، وما كان قاله مسؤولان كبيران من مسؤولي منظمة الأممالمتحدة هما جورج ايفان سميث وكونور كرويز اوبريان إذ أكدا منذ العام 1992 ان مرتزقة كانوا ارسلوا للقبض على همرشولد ومنعه من أداء مهمته، هم الذين اطلقوا النار على طائرته قبل أن تحط في تدولا، فقتلوه مع 15 شخصاً من رفاق سفره. ولكن، لماذا كانت تلك الأطراف راغبة في قتل همرشولد، أو في اسكاته على الأقل؟ في ذلك الحين كان الصراع في الكونغو محتدماً، وكانت الحرب الباردة متداخلة في ذلك، وكانت مصالح التجار البلجيكيين ومن ورائهم أجهزة غربية تريد أن تسيطر على اقليم كاتانغا، الذي يعتبر أغنى اقاليم الكونغو. وكان همرشولد يحاول أن يعقد صفقة بين حكومة ليوبولد فيل كينشاسا اليوم والزعيم الكاتانغي مويس تشومبي الذي كان يعتبر نفسه وطنياً افريقياً متنوراً ويسعى الى فصل كاتانغا عن الكونغو. أما المؤرخون والمعنيون فكانوا يرون فيه صنيعة للمصالح الغربية وفي مقدمها "اتحاد المناجم البلجيكي" الذي كان يهمه ألا يخسر ما في كاتانغا من مناجم نحاس وأحجار كريمة. في ذلك الحين كانت بلجيكا تحس بالخطر حين نشبت الحرب الأهلية في الكونغو عشية الاستفتاء الذي كان يفترض ان يوصل الكونغو الى استقلالها. وكان الصراع محتدماً، خصوصاً بين ثلاثة زعماء: الرئيس الأول للكونغو جوزف كازافوبو، وموبوتو الذي أصبح رئيساً بعد ذلك، ورئيس حكومة الكونغو اليساري المدعوم من جمال عبدالناصر والسوفيات: باتريس لومومبا. كان كل من هؤلاء يريد أن يسيطر. في البداية كان لومومبا هو صاحب الخطوة، لكنه اقترف ما اعتبره الغرب خطأ قاتلاً يومذاك طلب من السوفيات ان يساعدوه على قتل انفصاليي كاتانغا، الذين كانوا اعلنوا استقلالهم. وكان ذلك في حد ذاته يعتبر تحدياً لوكالة الاستخبارات المركزية التي ما كان يروقها أبداً ان يصل السوفيات الى المنطقة. وهكذا دفع لومومبا الثمن غالياً: أسر واغتيل في شهر كانون الثاني يناير 1961. وتلت ذلك فوضى شديدة صاحبت حصول الكونغو على استقلالها. ومنذ أوائل ذلك العام قرر مجلس الأمن السماح باللجوء الى القوة في الكونغو من أجل تهدئة الأوضاع، وبالفعل ما أن مرت شهور قليلة حتى هدأ صوت السلاح. ولكن بقيت كاتانغا التي راح يدافع عنها مرتزقة بيض استأجرهم تشومبي. وأمام تعقد الوضع هناك قبل داغ همرشولد أن يتدخل وبدأ وساطته. وفي الوقت الذي اسقطت فيه طائرته وقتل، كان من الواضح أن وساطته في طريقها للنجاح. من هنا كان من الواضح، منطقياً، أن يكون من قتله طرف - أو أطراف - لا تريد لأية وساطة أن تنجح. ومع هذا ظل "الاعتقاد" قائماً بأن الطائرة سقطت قضاء وقدراً حتى السنوات الأخيرة حين بدأت تطلع، وقد انتهت الحرب الباردة وصار كل ذلك ذكرى، أصوات تقول انه قتل وأنه سقط ضحية السلام بأيدي أطراف ما كانت تريد للسلام أن يعم الكونغو.