يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو: الشيء الكامل هو ما له بداية ووسط ونهاية.. اشتهر الفلاسفة قديماً عن البحث في أصل الأشياء وفي ذات الإنسان ما بين الوجود والمعرفة والقيم، والفلسفة هي كلمة يونانية تعني حرفياً (حب المعرفة) التي قد تشمل المعرفة الدينية أو الطبية أو الفلكية أو الفيزيائية. وكانوا يحاجون بالاستدلال بالمنطق، واللغة في محاولة إثبات ما توصلوا إليه من فلسفة. في كرة القدم حاول الكثير من الكتاب والرياضيين والخبراء التعمق في فلسفة هذه اللعبة الغريبة والمحاجة فيها. فاختلفت أراؤهم وتباعدت أفكارهم بطبيعة الحال، فنحن نتكلم عن (لعبة) ترفض المنطق وتنبذ القوانين، ليست تلك القوانين التنظيمية للعبة. إنما القوانين التكتيكية! في تاريخ كرة القدم ظهرت بعض العبارات الفلسفية الخاصة باللعبة ك(أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم) وحققت نجاحاً في بداية السبعينات مع المنتخب البرازيلي المدعم بالجوهرة بيليه وريفيلينو وجيرسون وتوستا ووجيرزينيو حتى ظن البعض أنها فلسفة ناجحة في كرة القدم. لكن سرعان ما بدد المنتخب الإيطالي في الثمانينات هذه الفلسفة فحقق كأس العالم بخطة دفاعية وما عُرف بالكاتيناتشو حينها، وسحق في تلك البطولة أمتع منتخب في تاريخ البرازيل قدم كرة هجومية! ماردونا هو أعظم فيلسوف كروي. كانت فلسفته هي تحطيم كل مقولة أو خطة قيلت أو طبقت في هذه اللعبة. قيل أن اليد الواحدة لا تصفق، لكن ماردونا في مونديال 86 كان هو اليد الواحدة للمنتخب الأرجنتيني فصفقت هذه اليد وحصلت على الكأس الغالية. قيل أن الكثرة تغلب الشجاعة، لكن شجاعته أطاحت بنصف لاعبي المنتخب الإنجليزي ليحرز هدفاً خالداً لا يمكن نسيانه. هذه هي كرة القدم ليس كل ما يقال فيها صحيحاً، وليس كل نجاح يمكن أن يتكرر بنفس الطريقة! في كرة القدم قد تجتمع فلسفة الشر مع فلسفة الحكمة، وفلسفة الجمال. فالغاية تبرر الوسيلة نجحت في هذه اللعبة، واستطاعت بعض الأندية والمنتخبات الصعود إلى منصات التتويج بطرق غير شرعية! وأيضاً تمكن بعض اللاعبون من إحراز الأهداف غير الشرعية. والتي صعدت بفرقهم إلى منصات التتويج أيضاً. وحينما نتحدث عن فلسفة الجمال فلقد قدم ميلان ساكي وبرشلونة غوارديولا أعظم اللوحات الجمالية في كرة القدم واستطاعوا حصد الألقاب وامتلاك قلوب عاشقي اللعبة. لكن أيضاً لم تصمد الكرة الممتعة أمام التكتيكات الدفاعية التي ظهرت مؤخراً ليستمر الصراع بين عشاق الكرة الجميلة وعشاق الكرة الواقعية. أما عن المشجع. اللاعب رقم اثني عشر المكمل لهذه اللعبة، حبة الكرز على الكعكة. فلقد حاول الكثير من دكاترة الجامعات والمختصين في علم الإنسان وعلم النفس دراسة حالة مشجع كرة القدم الفريدة من نوعها. حاولوا فهم قوة انتماء المشجع لناديه، بغض النظر تغيير اللاعبين والمدربين ورؤساء الأندية، وحتى تغيير طريقة اللعب والأسلوب، إلا أن المشجع ظل ينتمي لذلك النادي. ولم يتزعزع إيمانه قيد أنملة. فإن كانت كرة القدم ديانة فبالتأكيد لا يوجد ملحدون بين معتنقيها. لحظة ذهاب المشجع إلى الملعب هي لحظة تخليه عن (الأنا) ل(نحن)، حين يشارك آلاف المشجعين اللحظة. يصبح جسدهم واحد، قلبهم واحد، روحهم واحدة وحناجرهم تهتف، وكأن تلك الروح تفيض. فكرة القدم ليست مجرد لعبة بالنسبة إليهم. هي الملجأ من فوضى هذا العالم. أفيون المشجعين وترياق سعادتهم. كرة القدم ليست لعبة إنما أسلوب حياة. فتسديدة واحدة قد تُسعد ملايين وتُحزن ملايين. الفرص فيها لا تتكرر واللحظات النادرة لا تُمحى. الدموع هي الرابط المشترك بين الفرح والحزن. مشاهد الختام لا يمكن وصفها. والليالي العظيمة فيها لا تنتهي ولن تعود. والآن مع عودة بعض الدوريات بعد جائحة كورونا، كانت الملاعب أشبه بالمآتم. المدرجات الخالية تصدر تراتيل حزينة تواسي فقدانها للمشجعين. بينما المشجع من خلف الشاشة قد شعر باليتم، شعر بالعار كجندي متقاعد يشاهد حرباً لا يستطيع فيها مساعدة من ينتمي إليهم. وإلى أن تعود الحياة إلى طبيعتها سيظل هذا المشجع المتعصب يتألم لكن حبه الجامح لناديه ولهذه اللعبة سيجبره على احتمال ذلك الألم. وبالعودة إلى مقولة أرسطو: الشيء الكامل هو ما له بداية ووسط ونهاية. اختلف المؤرخون في بداية كرة القدم فالبعض نسبها إلى الإنجليز في القرن الثامن عشر، والبعض الآخر يجزم أن الصينيين قبل الميلاد كانوا يمارسون اللعبة! اما وسط هذه اللعبة لا يمكن الجزم فيه بما أننا لا يمكن أن نمتلك نهاية لها! فهي حياة خالدة لعاشقيها بدأت للمتعة فتحولت لواجب بل ثقافة وأسلوب حياة. لذلك نجد أن هذه اللعبة ليست كاملة، وبكل تأكيد عظمتها تكمن في عدم كمالها.