"القصائد الصعبة أو العسيرة تُغضب الناس أكثر مما تغضبهم القطعة الموسيقية الصعبة أو اللوحة الصعبة"، هذه العبارة التي وردت في مقالة عنوانها (كُره الشعر) للشاعر الأميركي بن ليرنر، ترجم الأديب والمترجم علي المجنوني أجزاء منها، تؤكد على حقيقة تجلّت في كثرة التأليف عن ظاهرة "الغموض" في الشعر، وفي تلقي تجارب عدد من الشعراء العرب أبرزها تجربة أبي تمام. فقد عبّر على سبيل المثال، أبوالعباس أحمد بن عمار (ت 319ه) عن غضبه من ورود عبارات غامضة مثل "كيمياء السؤدد" في قصيدة للشاعر، ورأى أن من يستعمل مثل هذه العبارات جدير بعدد من العقوبات من بينها الحبس في مستشفى المجانين، يقول: "وتالله ما يدري كثير من العقلاء ما أراد، ولا يتكلّم بهذا إلا من يجب أن يحظر عليه ماله، ويطال في المرستان حبسه وعلاجه"، ورأى الآمدي (ت 370ه) أيضاً أن بعض العبارات الغامضة في شعر أبي تمام تشابه "كلام أهل الوسواس والخَطرات وأصحاب السوداء"! يفترض المتلقي أن القصيدة تجربة إنسانية ينبغي أن يتحرّى مبدعها الوضوح التام لتحقق التأثير والإعجاب، ولذلك فمن غير المستغرب أن يغضب ويبدي استياءه من وجود ألفاظ أو عبارات غامضة تجعله يشعر بضعف قدرته على الفهم والتحليل. ويمكن ملاحظة أن الشاعر يتوجّه اليوم إلى جمهور مختلف ومتنوّع، لا نبالغ إذا قلنا إنه يُضمر المزيد من دواعي الكُره للشعر وللشعراء؛ من بينها ترسخ صورة سلبية عن الشاعر: الكائن النرجسي المتغطرس، أو "الشحاذ" و"المتملق" الذي يُسرف في مدح كل من هبّ ودبّ طمعاً في كسب المال. هذا الجمهور لم يعد مستعداً لمنح الأبيات الغامضة التي ترد فيها عبارات من نوع "كيمياء السؤدد" وقتاً طويلاً، أو حتى قصيراً، يقوم فيه بمحاولة البحث على مغزى الشاعر، وأصبح الشعراء الذين ينشرون إنتاجهم في وسائل التواصل الحديثة عرضة للانتقاد القاسي وإساءة الفهم أكثر من السابق. النقد الجارح الذي أضحى من المألوف أن يُتلقى به إنتاج الشاعر، سواء كان سببه الغموض أو غيره، جعل الشعراء الذين عايشوا مرحلة النشر في المجلات وفي المنتديات الشعرية يتأقلمون بصعوبة بالغة مع هذه الأجواء الجديدة للنشر بالاتجاه نحو تبسيط لغة قصائدهم إلى أبعد حد، أمّا الأقل صبراً ففضلوا الابتعاد عن نشر إنتاجهم في وسائل التواصل أو اتجهوا لنشر كل ما يمكن نشره باستثناء نشر الشعر. أخيراً يقول نايف أبا العون:ارفع ايديك وناج رب السماوات واستمطر أحلامك سحابة.. سحابة حتى ولو حلمك من المستحيلات بينك وبينه دعوةٍ مستجابة..