عندما ننظر إلى الثقافة كونها نتاج إنساني، فإننا بطريقة ما نحاول أن نُكيّف عناصرها حسب معطيات زمنها وسياقها الطبيعي، فهي بالمُحصلة ما هي إلا بُعدين مادي ومعنوي، فالبُعد المادي يتعلق بكل ما هو محسوس وملموس شكلاً ومضموناً، بخلاف البُعد المعنوي والذي هو شكل من أشكال المعاني والأفكار والصور الذهنية التي يُشكلها الناس تجاه أشياءهم المختلفة والتي بدورها تؤدي معنى ثقافي مُعين.. والثقافة بهذا المفهوم هو المعنى المتعارف عليه عند كل المجتمعات، ولكن الاختلاف في طبيعة سياقها في الزمان والمكان، فهي تعمد إلى تراكمية التقاليد والأفكار والمعارف التي تتوارثها الأجيال، وبالتالي فهي تكتسب طابع ديناميكي مرن جداً ونسبي في نفس الوقت، فثقافة القراءة على سبيل المثال ما هي إلا بُعد من أبعاد الثقافة المعنوية التي تُعبّر عن مجتمع لديه نزعة تجاه المعرفة، هذه المعرفة تُحقق البُعد الثاني من الثقافة وهو بناء مجتمع حضاري.. وهذا جواب لسؤال من يصنع من؟ هل الثقافة تصنع حضارة أم أن الحضارة هي من تصنع ثقافة؟ من يأتي قبل من في هذا السياق؟.. يرى ابن خلدون أن الظواهر الاجتماعية تأتي مرتبطة بصناعات المجتمع، وهي تُمثل أعمال الإنسان، وكأنه يؤكد هنا على معنى إنتاجية الإنسان والتي تُحقِق واقع ثقافي وحضاري في ذات الوقت، ولا أعرف صراحة من الذي يؤثر في من هل الثقافة تؤثر في الحضارة أم العكس، لكن الذي أعرفه أن الحضارة تأتي دائماً نتيجة لمجموعة القيم الثقافية المُتحقِقة، فهي نتاج لأبعاد معنوية كثيرة تُمثِل كل الأنساق الأدبية التي يراها ويعيشها الإنسان في مخيلته ووجدانه.. لهذا تُعد الثقافة من أهم أشكال صناعة الواقع، فهي تملك إمكانية مساعدة الإنسان على التكيُف مع الحياة وطبيعتها، وهذا التكيُف لا يأتي إلا من تطور مستمر وواع على مستوى الأفكار والفنون والأخلاق والأعراف فهي تحمل نسبية معانيها وبالتالي تكون محل نمو وإبداع، ولعلنا في ظل هذه الحركة الثقافية التي تشهدها مملكتنا الحبيبة والمتمثلة في برامج وأنشطة وزارة الثقافة أن نشهد قفزات ثقافية تساوي عراقة تراثنا الأدبي والذي نطمح من خلاله أن نُبرِز للعالم حضارة تكون محل إعجاب وانبهار.