لايمكن للوثوقية أن تصنع حضارة؛ لأنها لايمكن أن تصنع وعيا. الوعي هو ابن التساؤل القلق الحائر المتشكك، التساؤل الذي لا ينتهي إلى يقين؛ إلا لينقضه بيقين ملغوم بأسئلة النقض والتفكيك، أي بيقين هو عين اللايقين. ما يعني أن الوعي ليس أكثر من رحلة وعي، إنه رحلة؛ لا خاتمة يقين، رحلة استبصار لامتناهية، صيرورة انفتاح على الأسئلة اللانهائية، التي لا تغدو محاولات الإجابة عنها إلا مجرد تزاوج بين إرادتين: إرادة العلم وإرادة التفلسف.. وهو التزاوج الذي لا تتناسل عنه إلا أسئلة الحيرة، الحيرة في الذات، وفي الإنسان كظاهرة، وفي الوجود، وفي المصير، بل وفي كل ما يستعصي على التفسير. الحضارة هي بنت القلق المهموم بالإنسان. وصناعة الحضارة هي غير صناعة الإمبراطوريات العظمى القائمة على إرادة الغزو، والتي هي- في جوهرها - إرادة موت؛ لا إرادة حياة. وواضح أن هذا عكس الإرادة الكامنة وراء القلق الحضاري، إذ هي إرادة تتغيا الإنسان في حياته، سواء أكان ذلك على مستوى وجوده المادي أم كان على مستوى وجوده المعنوي، ابتداء من محاولات فهم الإنسان، مرورا بفهم شروط وجوده النوعي، وليس انتهاء بالتفسيرات العدمية لظاهرة الإنسان. تحتاج الإمبراطوريات إلى اليقين. لايمكن أن تحشد الملايين للموت في سبيل التمدد الإمبراطوري دون أن تحشو قلوبهم وعقولهم باليقين المطلق؛ بصرف النظر عن مصدر هذا اليقين، وبصرف النظر عن مظاهر تجليه في الواقع. المهم أن يكون ثمة يقين جازم تشتعل به النفوس؛ حتى ولو كان في حقيقته وَهْماً من الأوهام. لازال العقل العربي الجماهيري يطابق بين صُور الهيمنة العسكرية، وبين مظاهر التمدد الحضاري. حتى عندما يطمح الإنسان العربي في النهضة؛ تتسلل إلى وعيه صورة المجد الإمبراطوري القديم الذي كان - ولا يزال - يعده أفضل ما قدّمه له أولئك الأسلاف العظام. لايمكن أن تقوم حضارة (حضارة حقيقية : حضارة إنسان) على اليقين؛ لأن تحقق اليقين هو نفي للوعي.. كل التشكلات الحضارية منذ فجر الوجود الإنساني بدأت بالحيرة، وبالشك، وبالتساؤل المحموم عن كل ما ينطبع على صفحات الوعي الإنساني. لم تبدأ حضارة ما بالقين؛ لأن اليقين يعني نهاية البحث، إنه يعني الوصول. ومن اعتقد أنه وصل إلى هدفه النهائي فلن يتكلف عناء المسير؛ لأن المسير - في مثل هذه الحال - يعني تجاوز الهدف، أو الخروج من دائرة الحق الخالص، إلى فضاءات التيه والضلال. منذ قرنين من الزمان ونحن نبحث عن النهضة، مقتنعين بأنها لا تبدأ إلا من خلال تحولات في مجال الوعي العام. لكننا لم ندرك ماهية هذا التحول الذي نحتاجه؛ كي ندلف إلى عَرَصَات الحضارة المعاصرة التي أيقظتنا من سباتنا العميق الذي امتد لأكثر من عشرة قرون. لقد أخطأنا الطريق إبان محاولات النهوض الإسلامي / القومي؛ إذ بحثنا عن اليقين فيما أورثه لنا الأسلاف، حشونا وعينا باليقين، بحثنا عن كل صور الجزم في تراثنا، واجتررناها في صورة قصائد عصماء. وعندما انفتحنا قليلا على الآخر؛ بحثنا - أيضا - عن كل صور الجزم فيما أنتجه الآخرون. أي أننا تلمسنا اليقين حتى ونحن نتواصل - معرفياً - مع أرقى حضارات الإنسان، أي مع أرقى حضارات اللايقين التي نهضت على بدهيات التساؤل الإنساني. لهذا غابت عنا الفلسفة بوصفها سؤالا وبوصفها احتمالا. رغم وجودها في الخطاب الخاص، والخاص جدا، ورغم رعايتها في بعض الجامعات العربية، بقيت معزولة عن مسيرة الوعي العام، وعن الخطاب الإعلامي في طبعته الجماهيرية. لقد تمت محاصرتها بتوافق ضمني - ربما غير واعٍ ! -؛ كي يحتفظ العربي بيقينه، كي يقمع الأسئلة الصعبة والمحيّرة، كي ينفي نفسه خارج دائرة الأسئلة التثويرية التي قد تقف به على نهايات اليقين الذي يغتبط به كجهل مقدس!. كنتُ كلما تأملت في المقروء الثقافي الذي يشكل وعي الإنساني العربي أصاب بالإحباط؛ لأنه - في المجمل - يشحن وعيه المهزوم بتصورات مغلوطة عن الذات وعن الآخر وعن الوجود. وهي تصورات خطيرة، لكن أخطر ما فيها أنها متخمة باليقين الجازم الذي لا يسمح بفحص مثل هذه التصورات؛ فضلا عن نقضها وتفكيكها ووضعها - ككليات نظرية، وكجزيئات معلوماتية، وكتطبيقات عملية - في سياق التساؤل الدائم، واللامحدود بأية حدود؛ مهما كانت هوية هذه الحدود . اليوم، ربما تغير الوضع قليلا، ربما بدأنا نسير إلى الأفضل ولو في بعض تفاصيل حياتنا الثقافية. من يتأمل المقروء الذي تعكسه نوعية مشتريات الكتب في معرض الكتاب؛ يجد التحول واضحا بقدر ما هو واعد، ويستشعر أن جهود التنوير، وخاصة في السنوات العشر الأخيرة، قد بدأت تؤتي ثمارها، وأن قرع أبواب الوعي لأكثر من عشر سنوات ربما أشعل الشمعة الأولى التي نراها اليوم وهي تجاهد كي تضيء عتمات العقول. قبل سنوات قلائل، كنا نشكو من كون الأغلبية الساحقة تتجه إلى الكتب الصفراء، إلى كتب التقليد والتبليد، إلى كتب الاجترار والنقل الأعمى، إلى كتب اليقين والجزم والوثوقية العمياء . بينما نحن نراها اليوم تسير في الاتجاه المعاكس، تبحث عن كتب الفكر والفلسفة والعلم؛ حتى في أشد صورها جدية وصرامة، متجاوزة حتى ذلك الانفتاح التحرري الذي يضمنه النتاج الأدبي، والذي تغذت عليه - بوصفه انفتاحا غير مباشر على اللايقيني - لتشبع نهمها بارتياد عالم الذات المفضوح. القارئ اليوم، أقصد القارئ النوعي الذي بدأ يأخذ حَيّزا جماهيريا كما ظهر في معرض الكتاب، لم يعد يتوقف عند حدود المنتج الأدبي (الروائي خاصة) الذي يمتهن تعرية الذات، وإنما تجاوزه إلى حيث عالم الفكر المتسائل بلا حدود، إلى حيث القضايا الشائكة في الفلسفة والدين والسياسة والاجتماع، إلى حيث الإشكاليات الجدلية التي تشعله قلقا، وتبعده - في الوقت ذاته - عن سكونية اليقين الموهوم. لا يعني هذا أن النتاج الأدبي قد تم تجاوزه، بل على العكس، هو رافد أساسي لكل ممارسة معرفية / جمالية تتغيا تشكيل الوعي. وسيبقى هذا النتاج محايثاً للفعاليات الفكرية بشتى صورها، إذ هو الذي قاد - ويقود - كل شبكات التواصل بين عالمين غير منفصلين حقيقة: عالم الروح وعالم العقل، وهو الذي يلغي التمايز بين معطيات الداخل الإنساني وبين معطيات الخارج. أي أنه القادر على منحنا إمكانية التأمل في الإنسان بوصفه ظاهرة لا توجد إلا من خلال التفاعل بين ما هو طبيعي يمتلك قدرا معقولا من الثبات النسبي، وبين ما هو روحاني متغير، يبحث عما وراء حدود الطبيعي، سواء أكانت حدوداً في الطبيعة ذاتها أم حدوداً في طبيعة الإنسان. إن هذا الاتجاه القرائي - بصبغته الجماهيرية أو شبه الجماهيرية - هذا الاتجاه الإيجابي الذي لا يبحث عن اليقين، بل عن نهايات اليقين، هذا الاتجاه الذي لا يبحث في عالم الأجوبة بقدر ما يبحث في عالم الأسئلة، هو البوصلة التي تشير إلى هوية العقل الراهن والمستقبلي، هو دليل الأمل إلى بدايات الوعي الذي ستتفجر طاقاته عما قريب، وسيعيث أسئلة ملتهبة في كل مستودعات اليقين التي اقتات عليها خطاب الجهل والتجهيل منذ قرون. وعندما يتحول الوعي، وينتقل من عالم الإجابات المقفلة إلى عالم الأسئلة المفتوحة؛ سيخسر المتربّحون بالجهل (= الجهل المظنون علما)، وسيتوارى صخب هؤلاء الشَّغَاسِبة (= ممارسو الشغب الاحتسابي) الذين يعيثون - في وعينا وفي واقعنا - فساداً. ولن تجد من يهاجم المعرفة ويتخذها عدوا، بل سيصبحون تراثا غابرا نتذكره بألم وامتعاض، كما يتذكّر الغرب اليوم زمن ما قبل التنوير؛ حيث كان رجال الكهنوت المتعصبون يهاجمون المعرفة، ويطاردون الكتاب. إن تلك الجماعات التقليدية المتطرفة، التي تتسلل - لِواذا - من هنا وهناك، إنما تبحث عن الكتاب بوصفه جريمة، ولا شيء غير الكتاب. رعب الكتاب المختلف قد أخذ عليها منافذ وعيها؛ إن كان ثمة وعي بقي لها بعد كل هذه السنوات الطوال من التنميط والتحنيط بواسطة ثقافة الجهل وإيديولوجيا التجهيل. إن الكتاب النوعي الاستشكالي، الكتاب الذي يخلق الإنسان المتفكر؛ لا الإنسان المتذكر، هو - في نظرهؤلاء - خطر قادم، لابد من التصدي له، لابد من مصادرته بشتى أنواع المصادرة . إنهم دعاة المنع والحجب؛ لأنهم الذين يحددون - أو يجب أن يحددوا - للناس ما يقرؤون، وما تحرم عليهم قراءته إلا بواسطتهم؛ بعد أن يَجْتَزِئوا المقولات كما في لوائح الاتهام. الناس - في نظرهؤلاء - ما زالوا تحت سن الرشد، أي تحت الوصاية. ولهذا يجب منع الكتاب (الكتاب غير المأمون / غير التقليدي) من الوصول إلى الجماهير. هم، وحدهم - كما يزعمون ويدّعون - القادرون على تمييز الكتاب الخطر، من الكتاب النافع؛ حتى ولو كان ممهورا بأسماء كبار المفكرين. طبعا، هم وحدهم، يحق لهم قراءة كل كتاب ممنوع؛ لأنهم محصنون ضد الزيغ والضلال (= العصمة الكهنوتية).. ولهذا، فلايمكن أن يؤثر أي كتاب فيهم، ولا أن تستفزهم أية معرفة مهما كانت درجة خطورتها!. هذا وجه، وهناك وجه آخر، وهو أنهم يقرؤون لا ليستفيدوا، لا ليتحاوروا مع أسئلة الكتاب وإشكالياته؛ وإنما - فقط - ليطلعوا على الضلال المبين؛ فيحذروا (العامة والسوقة..، وكل ما سواهم عامة وسوقة !!!) من الخطر الكامن في كتب أهل الزيغ والضلال والعلمنة والانحلال. إن الناس - في نظر هؤلاء المشاغبين بدعاوى الاحتساب - رعية، وهم الرعاة لهم، إنهم يسوقونهم إلى حيث يشاءون، أو تشاء لهم ثقافة التجهيل التي تحركهم من حيث لا يشعرون. أنا أعذرهم بقدر ما ألومهم، وبقدر ما أبغض سلوكهم البدائي. أعذرهم؛ لأنهم نتاج ثقافة التجهيل التي اعتصرت كل بقايا الذكاء الفطري في أدمغتهم؛ فتركتهم خواء، بحيث يُفكر لهم ولا يُفكرون، ويُمكر بهم ولا يَمكرون. وأعذرهم - أيضا - لأنهم يستشعرون الخطر القادم عليهم / على ثقافتهم، من ناحية الكتاب. هذا الاستشعار جعله الله - عز وجل - في جميع الكائنات؛ كي تحافظ على بقائها، فهي - مهما بلغت درجة غبائها - تدرك - استشعارا - الأشياء التي تهدد بقاءها؛ حتى وإن لم تستطع الوعي بهذه الأشياء. ولا شك أن الكتاب الذي يستحث عوالم التفكير، الكتاب الذي يصنع الإنسان العاقل (لا الإنسان التابع الخاضع)، هو ما يهدد بقاء هؤلاء كأوصياء على جماهير الغوغاء..