لا نعتقد بأننا في حاجة إلى التأكيد على أن العالم الذي نحياه الآن، بصدد ثورة علمية وتقنية عارمة، وأنها ستحدث تغييرات حادة، بمعدلات متسارعة، لم يشهدها المجتمع الانساني من قبل، وذلك على جميع المستويات السياسية والإقتصادية والتربوية، بل والثقافية أيضاً، استناداً إلى حقائق التاريخ. إلا أن ما نعتقد أننا في حاجة إليه، هو الاقتراب من المفارقة التي طبعت المواقف، إزاء هذه الثورة. تبدو المفارقة، إذا ما لاحظنا إتفاق "الآراء" جميعاً على أن الثورة الراهنة تختلف اختلافاً جوهرياً عن سوابقها، وأنها أصبحت بالفعل عاملاً حاسماً في تحديد مصير عالمنا، دوله وأفراده، لكن في الوقت نفسه تتعدد "الرؤى" وتتباين حول "تقانة المعلومات" كأهم إرهاصات هذه الثورة، وحول آثارها المرتقبة على المدى القريب، والبعيد. ضمن أهم هذه "الرؤى" اثنتان: هناك "رؤية" تحمل من التفاؤل، إن لم نقل الانبهار بالحضارة الناتجة عن تقانة المعلومات، والتي يمكن تسميتها ب"الحضارة الإلكترونية" قدر ما تحمل من الدعوة إلى اتخاذها عقيدة تقوم مقام المرتكزات الفكرية والعلمية للمجتمعات الصناعية الغربية المعاصرة من بين أهم الرموز التي تتبنى هذه "الرؤية" عالم المستقبليات الاميركي الفن توفلر الذي بشر في كتاباته، وخصوصاً كتابه الآخير "السلطة الجديدة" بإرهاصات هذه "الموجة الثالثة" التي تشكل ثالث قطيعة جذرية في تاريخ البشرية، بعد الثورتين الزراعية والصناعية. ومن بين هؤلاء الرموز ايضا جون بري بارلو أحد أبرز علماء المستقبليات، الذي أصدر إعلاناً باستقلال المجال السيبرنطيقي، متوجهاً به إلى حكومات العالم، ومدعياً فيه بالخصوص أن مقولات الملكية والهوية والتعبير، لم تعد تلائم هذا الأفق الجديد، لأنها مقولات مادية، تناقض روحانية الفضاء "المعلوماتي" الجديد. وهناك "رؤية" تحمل من التشاؤم، أو قل الحذر، قدراً يدفعها إلى إنذارنا بأنه رغم كون تقانة المعلومات هي وسليتنا للسيطرة على الظواهر المعقدة وحل المشكلات، إلا أنها ذاتها أضافت بعداً جديداً يزيد معظم ظواهر حياتنا تعقيداً، ويوّلد لنا مشكلات جديدة لم تكن في الحسبان. إن فيلسوفاً، مثل ليوتار في كتابه "شرط ما بعد الحداثة" ينذرنا بأن "المعرفة، بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها للقوة الانتاجية، أصبحت وستظل من أهم مجالات التنافس العالمي - إن لم تكن أهمها - من أجل إحراز القوة، ويبدو من غير المستبعد أن تدخل دول العالم في حرب من أجل السيطرة على المعلومات، كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات، وبعد ذلك من أجل الحصول على المواد الخام والعمالة الرخيصة واستغلالها. لقد فتح مجال جديد أمام الفكر الاستراتيجي التجاري من جهة، والسياسي والعسكري من جهة اخرى". تحذير ليوتار هذا وإن كان يعتمد على نظرة فلسفية لآثار تقانة المعلومات وتداعياتها المستقبلية، فإن هناك من يؤكد مثل هذا التحذير، أو التوقع بالأحرى، وذلك استناداً إلى منظور "سياسي - استراتيجي". فقد كتب اخيراً جوزيف نيباي أحد كبار المسؤولين السابقين في البنتاغون، مقالاً مهماً في مجلة "فورين افيرز" توقع فيه أن تتمكن الولاياتالمتحدة الاميركية من تدعيم هيمنتها على العالم، عبر قدرتها على التحكم في المنظومات المعلوماتية وتقنيات الاتصال، ذلك أن "الجغراستيا" أصبحت تتحدد بمدى الكفاءة في استخدام "القوة غير المادية"، أي تقنيات الاتصال والمعلوماتية. في هذا السياق، ترى هل نرتكن الى تصور بعض اصحاب الرؤية "المتفائلة" في أن "التقانة كالماء والهواء" لا تقبل الاحتكار، ومادامت هي حصيلة تراكم النشاط البشري على مر العصور فمن حق الجميع أن يستفيد من نتائجها، أم نقلق مع "المتشائمين" وتوقعاتهم التي تتمحور حول أن عصر المعلومات ما هو إلا مرحلة جديدة من مراحل الصراع العالمي؟!. لعل محاولة الاقتراب من هذا التساؤل من أجل التعرف على الاحتمالات الاكثر "واقعية" لنتائجه يستدعي - بداية - الإشارة الى السمات الرئيسية التي تتميز بها الثورة الراهنة، مقارنة مع سابقتها الثورة الصناعية، وفي اعتقادنا أن هذ السمات ثلاث: السمة الاولى: أن هذه الثورة تجنح الى "العالمية" أو الى - محاولة - توحيد العالم في سياق واحد، كما تعمل على إلغاء الاثر التقليدي للتمايز الجغرافي وللحدود السياسية، التي كانت تشكل ضمانة وشرطاً وعاملاً متميزاً ومستقلاً في تكوين نمط الحياة والعمل في المرحلة السابقة وحتى الثورة الصناعية أي: عالم السيادة القومية ولعله من نافل القول، إن "جنوح" الثورة هذا يتبدى بوضوح من خلال التغير - التدريجي - في معايير وأنماط السلوك والحياة والانتاج بالنسبة للعالم مع تبدل "المدنية" السائدة أو القائدة للثورة الراهنة. السمة الثانية أن الاهمية المتزايدة والاستثنائية في الثورة الراهنة، تبرز من خلال وسائل الاتصال والمعرفة والعلم. هذا يعني تحول "الثقافة" بالمعنى الواسع للكلمة إلى مركز الثقل في هذه الثورة بكل ما يشير اليه ذلك من تحول الميدان الثقافي الى ميدان مباشر وأساسي للاستثمارات الاقتصادية والسياسية والنفسية، من مثل التركيز المتزايد على التأهيل والتكوين المهني، وعلى البحث العلمي، وعلى النظم التقنية وعلى الانساق المتكاملة لنظم الاتصال ونقل المعلومات. السمة الثالثة: أن التدويل المتزايد للمجال الانساني يرتبط بالتفاوت النوعي، ونقصد بهذا أنه في الوقت الذي تتعرض فيه الإنسانية للتأثيرات الثقافية والمادية والاقتصادية نفسها، بحيث أن أي تبدل في مكان ما يؤثر - نسبياً - على الجميع فإن توزيع إمكانات ووسائل النمو يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، مما يخلق نوعاً من الاحتكار الشامل لعناصر "التقدم" من قبل البعض أو الطرف الأصغر ونوعاً متفاقماً من التهميش الإنساني للبعض الآخر الذي يكاد يشكل الآن القسم الأعظم من الإنسانية. هذه السمات الثلاث، لا تؤكد فقط على ضرورة طرح التساؤل حول الفعل المناسب إزاء الثورة الراهنة، بما تمثله من تحدٍ لكثير من الشعوب أو الجماعات على مستوى العالم، ولا توضح وحسب الملامح العامة لتداعياتها الثورة على كل المستويات، بل اضافة الى هذا وذاك تؤكد على أن من تسرعوا في اتخاذ المواقف المحددة، او شبه المحددة إزاء هذه الظاهرة العالمية شديدة التعقيد، غالباً ما يقيمون وجهة نظرهم على اساس من الافتراضات المسرفة في بساطتها، أو يركزون على الشق التقني لهذه الظاهرة متعددة الابعاد بمعزل عن بيئة توطنها، تحاشياً للدخول - قصداً أو عجزاً - في متاهات الاعتبارات الاجتماعية. وبالتالي تراجعت على سلم الأولويات حقيقة كون الظاهرة، بالرغم من محركها التقني، هي قضية "سياسية - اقتصادية - ثقافية" في المقام الأول، بمعنى انها قضية تنتمي الى المجال الذي تتفاعل فيه هذه الابعاد، أي "المجال الحضاري". ينقلنا هذا، مباشرة، الى تلمس تداعيات هذه الظاهرة من جهة الاعتبارات الاجتماعية خصوصاً في سياق المقولة التي بدأت تنساب أخيراً على مستوى الانتاج الإعلامي ومفادها: "أن التقانة أسقطت الجغرفيا، وسوف تسقطها اكثر من القرن الواحد والعشرين، لأنها ألغت المسافات". واعتماداً على محتوى هذه المقولة، وبالأخص فيما يتعلق ب"تلاشي المسافات" بدأ تواتر الحديث - بغير تحفظ - عن "كونية جديدة" وعن "قرية عالمية واحدة". لا نعتقد أننا في حاجة إلى كبير شرح لتبيان العلاقة بين العلم والتقانة، وبين المنتوج والمعرفة التي من ورائه، كما لا نتعقد أننا في حاجة الى التأكيد على أن العلم والتقانة، وهما عنصران من عناصر الحضارة، معارف ومهارات "إنسانية" تندرج في اطار ما هو مشترك إنساني عام، وبالتالي فهما لا يدخلان في علاقة جوهرية مع الهوية الوطنية والقومية، بمعنى آخر، فإن عدم امتلاكهما والإضطرار من ثم، الى استيرادهما لا ينال، مبدئياً على الأقل، من الكيان الوطني والقومي، لا على مستوى السيادة ولا على مستوى الهوية، غير انه عندما يتحولان إلى وسيلة يوظفها اهل حضارة معينة في فرض قيم هذه الاخيرة على المجتمعات الأخرى، بقصد التوسع والهيمنة فإن الأمر مختلف. هنا، نكون فعلاً إزاء عملية "غزو" حضاري أي "محاولة من مجتمع ما لفرض قيمه على مجتمع آخر" تقوم بها الحضارة المالكة للعلم والتقانة، على الحضارات التي لا تملكها أو تتوفر عليها بمستوى أدنى، وهذا ما هو حاصل فعلاً في عالم اليوم. فالهيمنة الحضارية من طرف القوى المالكة وسائل فرضها، وهي وسائل متنوعة وجد متطورة، أصبحت - من الوجهة الاستراتيجية - ضرورية لتكريس وتعميق الهيمنة الاقتصادية والسياسية. قولنا الأخير هذا، إذا ما حاولنا صياغته قياساً الى الطفرة المعلوماتية الراهنة، يشير الى ان الطفرة هذه سوف تؤدي الى تركيز الاستلاب الحضاري، و- ربما - تقويض أو في الحد الادنى: التقليل من الاختلافات الحضارية، بخلق نموذج واحد له آليات تعميمه الواسعة خصوصاً اذا ملاحظنا من جانب، أن "التقانة" كانت على مدى التاريخ محركاً اساسياً للتغيير "الثقافي" وإفرازاً له في الوقت نفسه، واعترفنا من جانب آخر أن أهم الدوافع وراء التقنيات الجديدة يندرج في سياق استراتيجية خلق سوق عالمية موحدة، متمحورة حول الاقطاب الاقتصادية "الغربية" الرئيسية. من جانب التأثير والتأثر بين كل من الثقافة والتقانة يبدو بوضوح أن تقانة المعلومات هي التي جعلت من الثقافة صناعة قائمة بذاتها لها مرافقها وسلعها وخدماتها بل اننا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا بأن أثر الثقافة في التقانة يكاد يشكل جميع عناصر منظومتها والعلاقات البينية التي تربط هذه العناصر، ولا تشمل هذه العناصر الادارة الثقافية والموارد الثقافية فقط، بل أيضاً - وهذا هو الأهم - بنية المعرفة داخل المجتمع، والأسس والمبادئ التي قامت عليها هذه المعرفة وقاعدة القيم التي انطلقت منها. والأمثلة على أثر التقانة في الثقافة عديدة. ويمكن الإشارة هنا الى أمثلة ثلاثة: المثال الاول، هو ما أدت اليه تقنيات الطباعة بظهور "آلة غوتنبرغ" في منتصف القرن الخامس عشر لقد اسرعت هذه التقانة في محو الامية وكسر احتكار المعرفة، وهو الامر الذي يعد من الأسباب الرئيسية التي أدت الى تدمير النظام الاقطاعي، ذي السلطة المطلقة للنبلاء ورجال الدين، والتكوين السريع للمراكز الحضرية، والتوسع في النشاط التجاري، وهي التغيرات الاجتماعية التي ادت بدورها الي تصنيع اوروبا وتحول مؤسساتها السياسية جهة الديموقراطية. ومما تجدر الإشارة اليه، هنا، هو مدى التأثير المباشر لتقنية الطباعة على تجربة الفكر الغربي في توجهه نحو العقلانية، وتطور مؤسساته العلمية والتعليمية والثقافية. فالمعرفة في صورتها المطبوعة، لم تساعد فقط على نشر المادة المعرفية، بل ساعدت أيضاً على تنمية المهارات العقلية من خلال التعامل البارد مع النصوص، بعيداً عن سلطة المتحدث والانفعالات العاطفية التي تصاحب عادة عملية التواصل اللغوي الشفاهي. المثال الثاني: هو أثر تقنية التصنيع وظهور الرأسمالية في الفكر المسيحي في أوروبا. لقد ادت انجازات العلم الباهرة فيما ادت اليه، الى ظهور نوع من الفكر الفلسفي، قائم على تقديس العلم والعقل والايمان بقدرة الانسان على السيطرة الكاملة على الطبيعة، نوع من الفكر لا يشك فقط في وجود الرب الاعظم ... بل يتمادى احيانا ليبشر بظهور دين بشري بلا لاهوت ولا كنائس ولا اكليروس. ومما تجدر الاشارة اليه، هنا، ما يعطينا اياه التاريخ الاجتماعي للمجتمع الاميركي في نهاية القرن الماضي، كحالة مواجهة لتلك السابقة في اوروبا للعلاقة بين التقانة والدين، فقد صاحب تحول المجتمع من مرحلة الزراعة الى مرحلة الصناعة ظهور ما يمكن تسميته ب"الاصولية العقائدية" وخروج كثير من التيارات الدينية الفرعية عن المسار الرئيسي مما أدى الى تعدد الكنائس وتنوع فصائلها. المثال الثالث: هو أثر العلم والتقانة ليس في النتاج الفكري والادبي فقط، بل وفي نفاذ هذا الاثر الى صميم العملية الإبداعية نفسها، وهنا نجد ان الادب والدراما والفن على صلة وثيقة بالعلم والتقانة، إذ لا يخفى مدى الصلة الوثيقة بين اكتشاف نيوتن ألوان الطيف وظهور المدرسة الانطباعية في فن التصوير، وهو التأثير الذي يعبر عنه بشكل واضح أسلوب التنقيطية الذي ابتدعه الفنان الفرنسي جورج بيير سيورا عندما استبدل بقع الألوان بمزيجها المقابل من نقاط ألوان الطيف. ايضاً، لا يمكن تجاهل العلاقة بين انتشار العلم التحليلي وقيام المدرسة التجريدية على يد بيكاسو وبراك. هذه الامثلة الثلاثة، وإن كانت تؤكد على تأثير التقانة في الثقافة، إلا أن هذا لا يعني قطعاً انه تأثير ذو اتجاه واحد. إذ لأن التقانة والثقافة طرفا علاقة دينامية تبادلية، فإن للثقافة هي الاخرى تأثيراً على التقانة، وليكن شاهدنا هذه المرة على ما للثقافة من أثر على التقانة، هو فن العمارة، كمثال من بين العديد من الامثلة، فهذا الفن يمثل احد المواضع المثيرة للقاء الثقافة مع التقانة فهو مزيج من فنون التشكيل والنحت وهندسة البناء وتقانة المواد وميكانيكا الانشاءات ولعل اثر سلطة الحاكم الفرعون الاله والميثولوجيا القديمة على العمارة المصرية القديمة، وموقف الاسلام من الفن التشكيلي وأثر ذلك على العمارة الاسلامية، لدليل آخر على أثر الثقافة على العمارة. هذا وإن كان يوضح العلاقة التبادلية، أو التأثير المتبادل بين كل من التقانة والثقافة وإن كان يشير الى مقولة ان كل مجتمع جدير بالتقانة التي يستحقها وهي المقولة التي توضح علاقة الارتباط القوية بين مستوى ارتقاء المجتمع وقوة التقانة التي يفرزها لتغيره بدورها فإنه اضافة الى هذا وذاك، يؤكد على أن ما نشاهده اليوم من اختلاف نوعي بين المجتمعات الانسانية، مرجعه الى التضخم الهائل في حجم المعلومات وتوافر الوسائل العلمية القادرة على التعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات وكذلك الدور الحيوي الذي تلعبه المعلومات في جميع الانشطة الاجتماعية وهو الوضع الذي جعل منها تقانة المعلومات مصدراً أساسياً للقوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. لا يمكن التنبؤ بما أن تؤدي اليه ظاهرة معقدة كتلك التي بين أيدينا. ولكن ما يمكن استشرافه، ويدخل في اطار الاحتمالات الاكثر واقعية هو التنافس - وربما التصارع - بين الاقطاب "الاقتصادية .. الرئيسية". يؤكد هذا المشهد العالمي الراهن الذي يمكن تلخيصه في صيغة موجزة كالتالي: تضغط الولاياتالمتحدة الاميركية بكل ثقلها العلمي والتقاني والاقتصادي والسياسي، بل وربما العسكري ايضاً من اجل المحافظة على تفوقها أمام الهجمة اليابانية الشرسة لانتزاع السبق، في حين تسعى دول اوروبا الغربية جاهدة لأن تظل داخل حلبة هذا السباق، وتبحث الصراع التقاني مستغلة في ذلك مزاياها النسبية من توافر العمالة الرخيصة ونجاحها في توطين بعض مجالات "التقانة المتقدمة" في تربة مجتمعاتها، اما البلدان "النامية" فقد انقسمت الى فريقين: فريق منها يحاول اقتناص الفرص المواتية في نطاق حيز مناورة ضيق للغاية، والكثرة الباقية الفريق الآخر في سبات عميق، تاركين قدرهم تحت رحمة آليات الانتخاب المجتمعي البقاء للأعلم...!. غربلة ترج المجتمعات رجاً، تعيد فرز شعوب العالم في صورة "طبقات" جديدة، وتكتلات جديدة، وموازين قوى جديدة لتتهاوى من ثقوب آلة الغربلة هذه، الكيانات الضعيفة أو غير الصامدة. إن أهم القضايا التي نكتفي بالاشارة اليها، هنا، هي الكيفية التي يمكن ان يحيل اليها طور المعلومات، آليات التغير المجتمعي، الى نوع من ألعاب اللغة حيث التفاعل المجتمعي هو تفاعل بين الخطابات لخدمة مصالح الطرف الأقوى نحيل القارئ هنا على سبيل المثال إلى اتفاقات حرية التجارة متعددة الاطراف "الغات". وربما كان هذا ما يدفعنا الى القول بوجوب التخلي عن العديد من الشعارات التي تقوم على وهم خاطئ بحيادية العلم والتقانة، مثل الشعار الذائع الصيت: "التكنولوجيا بديلاً عن الايديولوجيا". إذ أن تقانة المعلومات قد باتت أداة رئيسية للفعل السياسي الموجه نحو السيطرة والتوجيه الإعلامي والتربوي، ولا نعتقد ان احداً يستطيع إنكار تأثيرها الواضح في نظام القيم، وتشكيل رؤية الفرد نظراً لما أحدثته، وسوف تحدثه، من تغيرات حادة في أنماط السلوك والمعايير. قطعاً لا يحتاج الامر الى تعليق حول "التفاؤل" و"التشاؤم" إزاء تقانة المعلومات وما يختص بنتائجها المتوقعة مستقبلاً، وذلك في إطار الاحتمال الأكثر واقعية الذي يشير الى "تنافس القطبيات وتصارعها حول تقانة المعلوماتية". غير أن ما يحتاج قطعاً الى تعليق هو ما سوف تواجهه البلدان "النامية" بلدان "العالم الثالث" أو بلدان "الجنوب" بالاحرى. إذ، على ما يبدو انها بلا ريب في مأزق حضاري شديد الحرج، فقد حلت بها هذه "الموجة" العارمة وهي في أقصى درجات التشتت والفرقة، إذ أنها مهددة باضمحلال كياناتها القومية، تحت وقع ضغوط خارجية شديدة وقيود داخلية قاسية. ولا عجب، والحال هكذا، أن نتسائل حول إمكانات "التفاؤل" خصوصاً إذا ما عرفنا أن "التشاؤم" هو: "توقع السوء، والجهل بأسباب منعه أو ردعه أو تلافيه"؟. * كاتب مصري.