التفكير هو عملية عقلية حسية غير ملموسة، فنحن لا نرى التفكير بقدر ما نرى نتائج تفاعله وديناميكيته وتحركه في تجويف صلدي لا يتغذى سوى على التخيل، وإثارة الخيال هي أساس التطور وأساس الابتكار، والإنسانية هي الحامي الأول للابتكار والخيال والإبداع.. حين قرأت قصة عجيبة انتابتني عدة تساؤلات؛ أهمها: هل الإنسان هو الوحيد المفكر؟ وهل نصادق على كل المسلمات التي تقول إن الإنسان هو حيوان ناطق أو مفكر، أي أنه الوحيد المميز عن باقي مخلوقات الله - عز وجل - بملكة التفكير؟ مجرد تساؤلات قادتني إليها هذه القصة الغريبة والعجيبة حين قرأتها، حيث وجدت أن أدق مخلوقات الله تفكر كالنملة على سبيل المثال - التي لا تأخذ حيزا من الفراغ إلا قليلا - تفكر، فتتلاحم حين الشدائد! فحين تموت نملة من بين جحافل النمل، تفرز مادة كيميائية تهرع لها مجموعات النمل، فتعمل على دفنها في مقابر تخصها، شأن ذلك شأن ما يفعله الإنسان؛ وحين وضع أحد العلماء تلك المادة على جسد نملة حية تجمع النمل ودفنها وهي حية، قصة عجيبة تبعث على كثير من التأمل بين المسلمات والمقدمات! يقول الدكتور محمد راتب النابلسي: "إن النملة تملك نوعاً من التصرف العقلاني، وهي من أذكى الحشرات، وترى بموجات ضوئية لا يراها الإنسان، ولغة النمل كيميائية، لها وظيفتان، التواصل والإنذار، فلو سُحقت نملة لفاحت رائحة تصدر عنها تستغيث بها النملات، أو تحذرها من الاقتراب من المجزرة"، ولا يقتصر هذا على موقف الموت والحروب والمجازر، وإنما فيما يتصل أيضا بالتكافل الاجتماعي فنجده يقول في هذا الشأن: "فإذا التقت نملة جائعة بأخرى شبعى تعطي الشبعى الجائعة خلاصات غذائية من جسمها، ففي جهاز هضمها جهاز ضخ تطعم به"! ولدي قصة أخرى ظريفة أيضاً - حدثت بالفعل - وهي أن كانت لدى ابنتي قطة صغيرة جُرحت، فأسرعت بها إلى الطبيب، وحينها قام الطبيب بإجراء كل الاسعافات، وتعليق المحاليل، وقياس الحرارة، وجرعات "الانتي بيوتك" وكل ما استحدثته تقنيات الطب من إسعافات وأدوية؛ إلا أن جسد القطة تلك رفض كل علاج خارجي، ومكثت هي تلعق جرحها، وحين سألت الطبيب قال لي: إن القطة تعالج جروحها بريقها فقط، فلديها هي ذاتها مضاد خاص لا يمتلكه سواها لإبراء جروحها، فتعالج جروحها رافضة أي تدخل خارجي! ولو أننا تتبعنا ملكة التفكير لدى كثير من الكائنات كالنحل أو حتى الهدهد وحكمته وفصاحته وكيف أن الله - عز وجل - قد ذكرها في كتابه العزيز للبحث والتأمل والتفكر فيما وراء هذه القدرات التي تفوق قدرات البشر، لكتبنا مجلدات! ولكننا أبعد كثيرا من البحث في شأن هذا التفكير لدى هذه المخلوقات وكيف أن الإنسان ليس هو من يحتكرها لذاته وهو أمر في غاية الغرابة، ولكننا تنبهنا في نهاية الأمر أن هذا التفكير لا يتطور كما لدى البشر، وهنا تكمن المفارقة! وإنما هو فطرة فطرت عليها منذ أن خلقت بلا تطور يحدث على سلوكها، وإلا إذا ما كان لها قسط من التطور لفتكت بالإنسان نفسه لشدة إخلاصها وقوة حبها لجنسها ولعملها الموكل إليها. وبذلك استمر الإنسان سيد هذه الأرض التي سخرها الله له بما فيها. القضية الأخرى محط التأمل هي: أين نحن مما يكتنف عالمنا من الشهوة والنشوة للقتل واستدرار الدماء؟ وأين يقف الإنسان منا في صفوف مخلوقات الله إذا ما قارنا تفكيرا بتفكير وأسلوبا بأسلوب وسلوكا بسلوك؟ إذ إن مناظر الدماء أصبحت شهوة رائقة تفوح في كل الطرقات؟ إن عملية التفكير التي حثنا الله عليها في مواضع كثيرة بكتابه الكريم - والتي حباها الله ميزة التطور والانشطار والتشظي إلى أبعد مما يتخيله عقل بشري - وهي هبة التميز والارتقاء لا نستغلها بالقدر الذي يساوي هذه المنحة وهذه الهبة سوى في كيفية الاستلاب والتعالي والقتل والحروب وإنتاج أسلحة الدمار والحقد والغيرة وإقصاء الآخرين.. وقل ما تشاء! وعلى الجانب الآخر لم نجد بين تلك المخلوقات - التي أشرنا إليها سلفا على مدار الأزمنة - أن النوع الواحد يقتل بعضه، إلا القليل منها مثل العناكب والعقارب وهي أسوأ وأضعف خلق الله، ولذا فهي تقتل بعضها وربما اقترن القتل لديها بضعفها ووهنها وقلة حيلتها وقبح عملها! التفكير هو عملية عقلية حسية غير ملموسة، فنحن لا نرى التفكير بقدر ما نرى نتائج تفاعله وديناميكيته وتحركه في تجويف صلدي لا يتغذى سوى على التخيل، وإثارة الخيال هي أساس التطور وأساس الابتكار، والإنسانية هي الحامي الأول للابتكار والخيال والإبداع. يقول المدرب محمود أبو شر في هذا الشأن: "إذا كان التخيل هبلا فأنا أفتخر بأنني أهبل"، ذلك لأن الخيال هو أساس التطور والتقدم والتطور والرقي أيضا، لكن كل هذه الأشياء جميعها لا تنمو في مستنقع الدماء والعنف والإقصاء، ولذلك لا يولد لدينا علماء ولا فلاسفة في زمن العقم الفكري!.