عندما أراد طرفة بن العبد البكريّ أن يتحدّث عمّا بعد الموت قال في معلقته المشهورة: «فإن متُّ فانعيني بما أنا أهلُه/ وشُقّي عليّ الثوب يابنة معبدِ. ولا تجعليني كامرئٍ ليس همُّه/ كهمّي ولا يُغني غنائي ومشهدي». لقد أثار انتباهي تشابه هذا البيت مع ما طرحه الفيلسوف الفرنسي لوك فيري صاحب أطروحة تأليه الإنسان و»مفارقات السعادة»، وفي كتابه الذي يحمل عنوان العبارة الأخيرة طرح هذا الفيلسوف الفرنسي ثلاثة تصوّرات أخلاقية عن العالم، ومختصر إشكاليته أن البشر فانون، وحياتهم هشّة ومحدودة، فما الذي بمقدوره أن يجعلهم يعيشون حياة طيبة على رغم الموت؟! ويستعرض فيري بسرعة القواعد الثلاث الكبرى، القاعدة الكونية اليونانية التي تقترح أن ذات الإنسان الصالح سوف تصبح بعد موته جزءاً من الأدبية، والقاعدة الدينية التي تؤمن بالخلود بعد الموت والأبدية ثواباً أو عقاباً، ثم ينتهي إلى ما يسميه: القاعدة الإنسانية، التي تفضي بنا معه إلى ما يشبه طرح طرفة بن العبد الجاهلي. يقول فيري: إن هذه القاعدة (أي: الإنسانية) ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي، وفحواها أن هذا الإنسان سوف يعزي نفسه في حياته عن موته المرتقب بأنه سيموت، وقد ساهم في البناء الإنساني والتقدّم والشأن العام، واصفاً هذه الطريقة في تصور «الحياة الطيبة» بأنها ديانة الخلاص الأرضي! إنني لا أجد هنا فرقاً كبيراً بين طرح طرَفة بن العبد وطرح لوك فيري، فالشاعر الجاهلي يعد حياته طيبة وسعيدة؛ لأنه تمتّع بمباهج الحياة «فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى/ وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي»، ولأنه كان مفيداً في حياته في الشأن العام لقومه وعشيرته. وأظنّ أن كل هذا الشغَف إلى الحصول على معنى يعزّي به الإنسان نفسه أمام حتمية الموت متعلق بغريزة الخلود لدى الإنسان، تلك الغريزة التي أسهب جاك شورون في الحديث عن تمثلاتها في الفكر الغربي ومظاهرها عبر العصور، فأفلاطون يرى أن الموت هو انعتاق النفس من الجسم. وأرسطو يؤمن بخلود العقل. وأبيقور يقول إنه لا بد من خلاص ما في هذه الدنيا، وإنه حين يموت سيردد في أنشودة انتصار مجيد أنه عاش «حياة طيبة»، ومونتاني يحاول أن يتعزى عن شكه في الخلود الحقيقي بخلود معنوي: إن قيمة الحياة ليست في امتدادها وإنما هي في استخدامها، فليس عدد السنين هو الذي يقرر أنك عشت بما فيه الكفاية. وبرونو يصرخ بأن الموت غير ممكن في هذا الكون غير المتناهي. وديكارت يقطع بأن أنفسنا باقية بعد أجسادنا. وباسكال يؤكد إن أفضل ما في هذه الحياة هو الأمل في حياة أخرى، وسبينوزا يدلي بأن الموت لا يستطيع القضاء على العقل البشري قضاء مبرماً، وليبنتز ينادي بأنه ما مِن كائن حيّ يفنى أبداً، وما يجري إنما هو تحوّلات أبديّة مستمرّة. لقد عاش العقل البشري قروناً وقروناً وهو يسائل قضية الموت والخلود، إما باليقين، وإما بالشك، وإما بالإنكار، وجاء عصرنا الذي شهدنا في أواخره الطرح الفلسفي الفرنسي الذي يعيدنا مباشرة إلى الطرح العربي الجاهلي، غير أننا نعيش كذلك مرحلة من مراحل الإنكار المتشدد للخلود، بحسب جاك شورون دائماً، حيث أصبح إنكار خلود النفس هو الموقف الإلحادي للفلسفة، لكن يظل كل عقلاء العالم وأخلاقييه يحاولون إيجاد ذريعة لهذا الشيء الذي يدفع الإنسان إلى التضحية، لهذا الذي يجعله يشتهي أن تُقال عنه كلمة حسَنة بعد رحيله، وأن تُخلد ذكراه وهو في قبره بكلمة أو عبارة، حتى لو كان ملحداً موقِناً في توهمه الجاحد بأنه لن يدرِك شيئاً مما سيقال عنه، ولن ينال جزاء شيء مما عملته يداه. من أجل ذلك كانت الحُجة التي قدّمها الألماني كانت للبرهنة على الخلود حجة أخلاقية، فالإنسان يستشعر في فطرته نداء داخلياً لا يستطيع الانفكاك منه، يحثه على إعداد نفسه للتضحية بشيء من مكاسبه ومزاياه في سبيل عالم أفضل يحلّق إليه بفكره وأمنياته، وهذا البرهان الكانتي لا يمكن تفنيده، بل تدعمه المعرفة المتزايدة، ويغذيه تأمّل عظمة الخلق، والتعلق بالأمجاد المنشودة، وعدم محدودية المعرفة والأخلاق، والكفاح المرافق لهما إلى الأبد، في سبيل تحقيق الخير الأسمى في العالم، فهذا هدف ضروري لا يمكن للإرادة البشرية السوية التخلص منه بحال من الأحوال. *باحث وروائي