يظل الاختلاف ما بين القديم والحديث أوروبيًا ليس مقصورًا على الآداب وحدها، وإنما يشمل العلم والفن والفلسفة بل ويتناول الحياة كلها في فروعها المختلفة المادية والسياسية والاجتماعية، فالخلاف ما بين القديم والحديث أصل من أصول الحياة عامة.. استكمالًا لحديثنا السابق حول الآداب الأوروبية ما بين العصر الوسيط وعصر النهضة وبالذات الآداب التي تقاسمت العصرين معًا. والتي تناولها أرنولد هازور في كتابه "الفن والمجتمع عبر التاريخ" مسلطًا الضوء على التحول الذي مرت به حياة الشعوب الأوروبية، ومن بينها آدابها منذ بداية العصر الوسيط مرورًا بعصر النهضة حتى العصر الحديث. فالتحول الحقيقي الذي أحدثه عصر النهضة الأوروبية كان منطلقه العصر الوسيط، فالأفكار التي ملأت عصر النهضة أفرزها ذلك العصر، والتي كان مبعثها الحضارة الإغريقية الرومانية. كل ذلك ساعد على وجود تحولات في ميدان الآداب وإن كان الاختلاف الأساسي ما بين آداب العصر الوسيط وعصر النهضة يكمن في أن العصر الوسيط كان منحازًا إلى الجانب الروحي بينما عصر النهضة كان عصرًا دنيويًا. وإن كان هذا الوصف ليس دقيقًا من الناحية الموضوعية، فعصر النهضة لم يكن يحمل طابعًا لادينيًا ولم يكن عصرًا شكيًا، فالشعور الديني لم يكن غائبًا في ذلك العصر وإنما كانت مفاهيم أسقطتها الحركة التنويرية وبالذات المفكر فولتير، وظل فولتير يتحمل - على حد تعبير أرنولد هازور - وزر هذا الوصف حتى يومنا هذا. وفولتير يعد بالمناسبة أحد ممثلي حركة التنوير الفرنسية، وكان له أثر كبير لا على الفكر الفرنسي فحسب بل على الفكر الأوروبي بصورة عامة، وقد قامت أفكاره على فلسفة الشك المناهضة للدين المسيحي. ولكن يظل الاختلاف ما بين القديم والحديث أوروبيًا ليس مقصورًا على الآداب وحدها وإنما يشمل العلم والفن والفلسفة بل ويتناول الحياة كلها في فروعها المختلفة المادية والسياسية والاجتماعية، فالخلاف ما بين القديم والحديث أصل من أصول الحياة عامة. فإذا ما نظرنا إلى الآداب الأوروبية مثلًا وإلى الشعر نجد أن تطور الشعر كان تطورًا نوعيًا بدأ بالشعر القصصي فالشعر الغنائي فالشعر التمثيلي، وكان تطورًا منسجمًا مع تطور الحياة الاجتماعية وإن كان يتم لصالح القديم. وبإمكان الباحث أن يتلمس ذلك في الدراسة التي كتبها د. عدنان رشيد حول الأدب الكلاسيكي الألماني معتبرًا أن النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي مرحلة البداية للأدب الألماني. وذلك بظهور أولى المخطوطات التي تحمل آداب ولغات القبائل الجرمانية، حيث لم يكن يوجد قبل التاريخ أي أثر للأدب الألماني إلا بعض الملاحم التي تناقلتها الأجيال. ولكن هذا النوع من أدب الملاحم اختفى بتطور الأدب والشعر الذي ظهر فيما بعد. فالأدب الألماني من الآداب العالمية التي قدمت للبشرية ملهمين في مجال الرواية والشعر والقصة إلى جانب الأدب الفرنسي والإنجليزي والآداب الأخرى. وقد ازدهر الأدب الألماني أيام الإقطاع ثم انتشر في العصور الوسطى. وكان لإرهاصات عصر النهضة أثرها على الفكر الأوروبي بصورة عامة والفكر الألماني بصورة خاصة، وقد ظهر في تلك الفترة عدد من الأدباء والشعراء فبرزت المسرحية إلى الوجود وشقت الرواية طريقها من بين الأجناس الأدبية. تبع ذلك ظهور حركة التنوير الألمانية والتي جاءت متأخرة عن حركة التنوير في إنجلترا وفرنسا بمئة عام. ثم ظهرت الكلاسيكية وأعقبتها المدرسة الرومانتيكية، وكان أبرز ممثلي المرحلة الكلاسيكية في ألمانيا جوتة وشلر، وفي تلك الفترة أطلقت حركة التنوير العنان للعواطف الإنسانية في الشعر والأدب في محاولة لمحاربة التعبير الشكلي المصطنع. وعلى إثره كانت حركة التنوير حدثًا حاسمًا في تطور الأدب الألماني. فكفاح ألمانيا من أجل أدب ألماني قوي موحد كان عملية شاقة وصعبة، ولكن ظهور لغة ألمانية قومية مشتركة أوجدت أساسًا لتطور الأدب الألماني، والتي أصبحت بموجبه نموذجًا حيًا لثقافة ألمانية متنورة. أما الآداب العربية فقد أخذت بحظها - كما يقول د. طه حسين - من هذه الظاهرة العالمية التي تشترك فيها الآداب العامة جميعًا وهي ظاهرة الخلاف ما بين القدماء والمحدثين. فحظ الآداب العربية من هذا الخلاف على عظمه وكثر الكلام فيه لم ينتج لهذه الآداب شيئًا كثيرًا في الشعر على أقل تقدير. وإذاً فلم يحدث في الحياة العربية اشتداد الخلاف ما بين القدماء والمحدثين شيئًا ذا بال. ورغم أن الحياة الأدبية تطورت في القرن الأول والثاني للهجرة تطورًا يوشك أن يكون كاملًا بل إن هذه الحياة الأدبية تبدلت في هذين القرنين تبدلًا تامًا إلا أن ذلك لم يكن طابع الحياة الأدبية العربية اليوم.