رغم صغر المساحة الجغرافية للبنان (ثاني أصغر دولة عربية بعد البحرين)، إلا أنها تعلقت في وجدان العرب والمنطقة منذ تأسيسها في بدايات القرن العشرين بقوة ناعمة حيوية تجاوزت في قيمتها كثيرًا من الدول التي تفوقها في مساحة الجغرافيا!. سر القوة الناعمة يكمن في العنصر البشري اللبناني، الذي تألق في كل الميادين الحيوية، ففي الشعر مثلًا سمعنا عن رابطة شعراء المهجر الأميركي، وهي مدرسة شعرية متكاملة ومستقلة بذاتها بين مدارس الشعر العربي، تألق فيها إلياس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وإلياس طعمة، وبالطبع يأتي في مقدمتهم جبران خليل جبران، وفي الداخل اللبناني تألقت كوكبة من عمالقة الشعر العربي، تزعمهم الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، الذي بويع بإمارة الشعر العربي بعد وفاة أحمد شوقي، إضافة إلى شعراء كبار كسعيد عقل وأمين نخلة وأنسي الحاج، ولا تزال لبنان حتى اللحظة تمنح العروبة وتكرمها بأعلام كبار كالشاعرة المبدعة سارة الزين. أيضًا، تميز اللبنانيون وتألقوا في ساحة المعاجم والقواميس اللغوية منذ وقت مبكر، كبطرس البستاني وعبدالله العلايلي، ومنير البعلبكي ولويس معلوف وجبران مسعود ومراد البعلبكي وسواهم كثير. الغناء اللبناني مميز ومبهر أيضًا، ومنذ وقت مبكر تمكن اللبنانيون من تطويع لهجتهم الدارجة في أعماق الأذن العربية، وقد برزت أصوات خالدة في تاريخ الغناء العربي، ولعل صوت السيدة فيروز وغناءها الأسطوري كملحمة خالدة تقتحم القلوب بلا استئذان، يأتي في مقدمة الغناء اللبناني وقوته الناعمة، إضافة إلى أعلام غنائية مميزة طالما أشجتنا بعذوبة الفن اللبناني، فمع الأخوين الرحباني تطور الفلكلور الشعبي وارتقى إلى فن المسرح الموسيقي، واشتهرت أسماء طالعة في سماء الفن اللبناني كوديع الصافي ونصري شمس الدين وملحم بركات ومارسيل خليفة وسليم سحاب وزياد الرحباني. وأخيرًا.. لا شك أن ما يحصل اليوم في لبنان مؤلم لأي ضمير عربي، لا سيما مشهد النفايات وهي تتكدس في شوارع بيروت، التي كانت تضاهي باريس في نضارتها وألقها، ولا شك أن مآلات الأمور الآن هي نتيجة طبيعية لتراكم واحتقانات الأزمات السابقة، وما نلحظه من تعنت عنجهي لساسة لبنان يقابله احتقان شعبي عارم، ورفض وطني للوصاية الإيرانية، لن يرضى اللبنانيون إلا بعودة وطنهم إليهم، وقطع حبائل طهران عن مستقبلهم، فاللبنانيون يدركون جيدًا أن ضرورة اللحظة تقتضي تحجيم حزب الله وإنهاء ولايته على لبنان، وعودته كحزب سياسي طبيعي، وعندها ستعود ماكينة الطاقة البشرية إلى طبيعتها الإبداعية، وستتألق القوة الناعمة من جديد.