إلم تكن أبنية ومنازل الجزيرة العربية مستحدثة أو منقولة من حضارات مجاورة، بل كانت ذا تصميم وبناء معماري ينبع من الشخصية ذاتها والمتمحورة حسب بيئتها ومناخها وعاداتها وتقاليدها ثم انتشرت إلى باقي البلاد، لما لهذه المنطقة من عمق تاريخي يؤهل أصحابه إلى الاختراع.. ن التراث المادي هو ميراث الشعوب، وهو كل ما كانت تتكون منه الشخصية والمتمثل في تعاملها مع البيئة التي تحيط بشعب أو فريق من الناس. وهنا تتلازم حتمية تلامس المكان والإنسان وتدجين واستئناس المتوحش منها كلٌ في علاقته بالآخر. ولكي نتناول الثقافة المادية بالتحليل والتفسير، فعلينا بتعريف الثقافة، وهي: "مجمل الموروثات الإنسانية المادية منها وغير المادية والمحكومة بالبيئة الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية المحيطة بها وتدخل فيها كذلك الممارسات اليومية التي تكيف الحياة عامة والسلوك على وجه الخصوص؛ ولذلك كان لا بد من تحديد مفهوم الثقافة المادية والتي سنتناولها بالنقد والتحليل، وهي الشيء الملموس والمحسوس بوجه عام، أو بمعنى آخر هو تحويل المادة الخام إلى شكل محدد يخدم غرضاً لدى الإنسان مثل الأبنية والمنازل، الحرف والصناعات الشعبية، أدوات العمل الزراعي، الأسلحة، الأزياء الشعبية، أدوات الزينة، الأدوات المنزلية، ثم الإضاءة وتطورها. ولم تكن أبنية ومنازل الجزيرة العربية مستحدثة أو منقولة من حضارات مجاورة، بل كانت ذا تصميم وبناء معماري ينبع من الشخصية ذاتها والمتمحورة حسب بيئتها ومناخها وعاداتها وتقاليدها ثم انتشرت إلى باقي البلاد لما لهذه المنطقة من عمق تاريخي يؤهل أصحابه إلى الاختراع، يقول العالم الكبير أمين السويدي في كتابه سبائك الذهب: إن أول من بنى مدناً ذات هندسة معمارية وطراز محكم هو النبي شيث، إذ بنى 128 مدينة على أسس هندسية كما ذكرنا بحسب ما ورد في مخطوطه الأثري. كما أن رالف لنتون في كتابه شجرة الحضارة قد ذكر: "أن في أماكن كثيرة منها لا يزال الفلاحون يعيشون كما كان يعيش أسلافهم في العصر النيوليتي 5400 عام قبل الميلاد، ويستطيع عمال الحفائر الأثرية أن يوضحوا الغرض الذي اُستخدمت فيه الأدوات المختلفة التي عثروا عليها في حفائر هذه المنطقة خيراً مما يستطيعه معظم علماء الآثار". وبما أن شبه الجزيرة مدرج الأنبياء الأول، ومنها خرجت البشرية إلى كل بقاع الأرض، فجديرٌ بها أن تكون مؤسسة هندسة المعمار الحضاري واختراع مساكن لبني البشر وهو ما كشف عنه علماء الآثار والتنقيب. ويظهر ذلك في مدائن صالح، وحضارة إرم وغيرها. وعن المنازل فيها يقول لنتون: "وفي أقدم العصور كان الناس يعيشون في قرى". وبهذا القول ينتفي قول المستشرق والباحث الأنثربولوجي جيمس فريزر بأنهم لم يعرفوا الاستقرار لأنهم بدو رحل، وتبعه في ذلك القول باحثون كُثر، جلَّهم من العرب، وحقيقة القول إن العصر النيوليتي 4500 ق.م، كان يزخر بالعديد من القصور والمعابد التي كشف عنها التنقيب في عصرنا الحديث، كما أنه لم يكن هناك على ما يبدو منازل منعزلة مما يترتب عليه وجود الحروب الداخلية بين أبناء القرية الواحدة. وقد حدثت دون شك مشاحنات بين أهالي المحلات السكنية المتجاورة حول الأراضي الصالحة لمرعى حيواناتهم، كما كانت الحيوانات المستأنسة تغري دائماً بالسرقة. ومع ذلك فإن عدم مبالاة السكان بالمنشآت الدفاعية حول القرى دليل على أن تلك الحروب لم تكن ذات خطر كبير، ومما هو جدير بالذكر أن عادة اصطياد الرؤوس البشرية التي كانت متبعة في جنوب شرق آسيا لم تُعرف على الإطلاق في هذه الحضارة بحسب ماور دفي كتاب شجرة الحضارة. وقد رصد العديد من الرحالة الغربيون منذ القرن التاسع عشر الكثير من المشاهد الحضارية بما لها وما عليها، ودونوا الكثير حسب انطباعهم وحسب ما تلتقطه ثم يعود ليقول: "كانت منازلهم مستطيلة الشكل ومشيدة من الطوب أو من الحصير، يثبتونها فوق إطار خشبي يلطسونها بالطين. أما سقوفها فكانت من القش وهي إما مسطحة أو مثلثة الشكل (على هيئة الجمالون)، وذلك يرجع قبل كل شيء آخر إلى حالة نزول المطر في المنطقة. وتدل طريقة تشييد تلك المنازل على أنه كانت توجد منذ ذلك الوقت البعيد أزمة في الأخشاب في مناطق كثيرة، أو أن سكان القرى كانوا يتحاشون بذل الجهود اللازم في قطع الأشجار لإعدادها"، وبذلك فقد جانب الصواب هذا الباحث -بالرغم من أن مؤلفه هذا أصبح نبراساً لكل الباحثين- وذلك يرجع لجهل الباحث بالمنطة وخباياها، فهو يتكلم عن جنوب غرب آسيا ومنها اليمن وبلاد عسير وجبال السروات وبلاد تهامة عسير حتى حدود مكة والطائف وحتى بلاد الشام، وهذه المنطقة منذ فجر التاريخ وما قبله تزخر بالغابات والأشجار، هذا فيما ذكر بندرة الأخشاب، أما فيما يخص عدم بذل المجهود، فذلك يتنافى وطبيعة أهل هذه المنطقة لأن مصدر رزقهم يرجع إلى قطع الأشجار والاحتطاب والتجارة فيها. ولذلك فالمستشرقون كتبوا ونحن نتناول بمبدأ السمع والطاعة، وهذا ما أحدث خللاً في ثقافتنا، وتتنوع الأبنية والمنازل في التصميم والمادة المستعملة في البناء، حسب المناخ والموقع وطبيعة المناخ، فالمنازل في الحضر مثل جدة والرياض والدمام، تختلف عنها في أبها، وعسير قحطان عنها في بلاد تهامة وجازان ونجران. فالمنازل في جدة ذات تخطيط معماري حضاري، غَلب عليه الطابع المعماري المترف، حيث المشربيات والأعمال الخشبية في واجهات المنازل، كما غلبت عليه اللمسة الهندسية في التصميم، حيث تنتظم المنازل في خطوط مستقيمة،، وما إلى ذلك. وفي مدينة جدة كانت هناك مسافات أو فجوات ضئيلة بين البيوت البيضاء العالية المسورة، وتلك البيوت التي بنيت من أربعة أو خمسة طوابق من الحجر المرجاني بدعائم مربعة، وزُينت بنوافذ ذات أقواس. إن حضارتنا في ثقافتنا المادية تحتاج إلى تسليط الضوء عليها وتسويقها عربياً وعالمياً وخاصة بعد انفتاح السياحة والترفيه.