لكي نبرز الثقافة المادية بالتحليل والتفسير حسب مجريات الحتمية المكانية والزمانية لهذا البلد الذي خصه الله تعالى دون غيره ببيته المعظم، فإنه يتوجب علينا أولاً تعريف الثقافة، وتحديد مفهوم الثقافة المادية التي يجب تناولها بالنقد والتحليل.. إن الثراث المادي هو ميراث الشعوب، وهو كل ما كانت تتكون منه الشخصية والمتمثل في تعاملها مع البيئة التي تحيط بشعب أو فريق من الناس. وهنا تتلازم حتمية تلامس المكان والإنسان وتدجين واستئناس المتوحش منها كلٌ في علاقته بالآخر. وفي موسم الحج ومع توافد ملايين المسلمين إلى هذه البقعة الطاهرة من كل أرجاء بلاد الله، وأثناء تحليق الطائرة استعداداً للهبوط في مطار جدة الدولي شاهدت بلادنا ومعمارنا الذي يشكل ثقافتنا المادية، لكنها تحتاج إلى تعميق تلك الخصوصية التي تمثل شخصية هذا المكان المهم في العالم والتي يجب أن تحدث تمايزاً حضارياً مادياً يحمله هؤلاء الحجاج حينما يعودون إلى بلادهم بإرث عقائدي حضاري خاصاً، ويبرز خصوصية المكان والإنسان بالنسبة لهم وللعالم أجمع! ولكي نبرز الثقافة المادية بالتحليل والتفسير حسب مجريات الحتمية المكانية والزمانية لهذا البلد الذي خصه الله تعالى دون غيره ببيته المعظم، فإنه يتوجب علينا أولاً تعريف الثقافة، وهي كما يقول علي الصاوي في كتابة نظرية المعرفة هي: «مجمل الموروثات الإنسانية المادية منها وغير المادية والمحكومة بالبيئة الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية المحيطة بها وتدخل فيها كذلك الممارسات اليومية التي تكيف الحياة عامة والسلوك على وجه الخصوص». ولذلك كان لابد من تحديد مفهوم الثقافة المادية التي يجب تناولها بالنقد والتحليل كما يقول عزيز العرباوي، الثقافة الشعبية وآدابها في مجلة عالم الفكر وهي: «الشيء الملموس والمحسوس بوجه عام، أو بمعنى آخر هو تحويل المادة الخام إلى شكل محدد يخدم غرضاً لدى الإنسان». مثل الأبنية والمنازل، التي هي من أهم علامات الثقافة المادية بالنسبة لنا ولأي شعب آخر مما سوف تشكله في تاريخ الأزمنة اللاحقة بخصوصية مهمة لهذا المكان الذي ما من مسلم على وجه الأرض إلا أمره الله جل وعلا بالذهاب إليه، فهل نفقه كنه الحتمية الضرورية لتشكيل ثقافة مادية لهذا البد والتي لم أجدها حين هبطت الطائرة وكذلك عين الزائر ذات اللقطة الأولى وللوهلة الأولى لهذا المكان! فلماذا هذا التغريب المعماري لهذه المدينة ذات الأهمية القصوى في تشكيل الوعي العام عن ثقافتنا المادية؟ ولماذا نهدم تاريخ حضارتنا التي تحدث عنها رالف دانتون فيما قبل 5400 قبل الميلاد في كتابه «شجرة الحضارة»، وهي دراسته التي أجراها في مؤسسة فرانكلين في نيويورك متحدثاً عن العصر النيوليتي 5400 عام ق.م في منطقتنا جنوب غرب آسيا فيقول: «ولم تكن أبنية ومنازل الجزيرة العربية مستحدثة أو منقولة من حضارات مجاورة، بل كانت ذات تصميم وبناء معماري ينبع من الشخصية ذاتها والمتمحورة حسب بيئتها ومناخها وعاداتها وتقاليدها ثم انتشرت إلى باقي البلاد لما لهذه المنطقة من عمق تاريخي يؤهل أصحابه إلى الاختراع، فأول من بنى مدناً ذات هندسة معمارية وطراز محكم هو النبي شيث، إذ بنى 128 مدينة على أسس هندسية كما ذكرنا سابقاً. وفي أماكن كثيرة منها لا يزال الفلاحون يعيشون كما كان يعيش أسلافهم في العصر النيوليتي 5400 عام قبل الميلاد، ويستطيع عمال الحفائر الأثرية أن يوضحوا الغرض الذي أُستخدمت فيه الأدوات المختلفة التي عثروا عليها في حفائر هذه المنطقة خيراً مما يستطيعه معظم علماء الآثار». وبما أنها مدرج الأنبياء الأول، ومنها خرجت البشرية إلى كل بقاع الأرض، فجديرٌ بها أن تكون مؤسسة لهندسة المعمار الحضاري لأننا في هذه البقعة (أبناء الجزيرة العربية) مخترعو مساكن لبني البشر وهو ما كشف عنه علماء الآثار والتنقيب. ويظهر ذلك في مدائن صالح، وحضارة إرم وغيرها. فعن المنازل فيها يقول لنيتون: «وفي أقدم العصور كان الناس يعيشون في قرى». أي أننا نحن أول من أنشأ مجتمعا سكانياً على أسس ثقافة مادية في هذا العالم. وبهذا القول ينتفي قول المستشرق والباحث الأنثربولوجي جيمس فريزر بأنهم لم يعرفوا الاستقرار لأنهم بدو رحّل»، وتبعه في ذلك القول باحثون كُثر، جلَّهم من العرب. وحقيقة القول: إن العصر النيوليتي كان يزخر بالعديد من القصور والمعابد التي كشف عنها التنقيب في عصرنا الحديث، كما يقول لينتون: «لم يكن هناك على ما يبدو منازل منعزلة مما يترتب عليه وجود الحروب الداخلية بين أبناء القرية الواحدة. وقد حدثت من دون شك مشاحنات بين أهالي المحلات السكنية المتجاورة حول الأراضي الصالحة لمرعى حيواناتهم، كما كانت الحيوانات المستأنسة تغري دائماً بالسرقة. ومع ذلك فإن عدم مبالاة السكان بالمنشآت الدفاعية حول القرى دليل على أن تلك الحروب لم تكن ذات خطر كبير، ومما هو جدير بالذكر أن عادة اصطياد الرؤوس البشرية التي كانت متبعة في جنوب شرق آسيا لم تُعرف على الإطلاق في هذه الحضارة». ولذلك لدينا حضارة الأمن والأمان وعدم وجود صراعات، ولا عداءات، كما أن لينتون قد نبهنا لأمر مهم وهو أن لنا سبق (الديموقراطية) فيقول: «إن القرى كانت تسكنها مجموعات صغيرة تعيش في مجمع واحد، فإن السلطة الحقيقية كان يمارسها زعماء العائلات، ولكنهم لا ينفردون بسلطة الرأي فكان الرجال يحبون الاجتماع في مكان يرتاحون إليه في القرية، وغالباً ما كان الجرن الذي يدوسون فيه الحبوب، وهناك يناقشون أمورهم المهمة عندما تقل حرارة الجو في السماء. وكان لكل عضو في القرية الحق في أن يقول ما يؤمن به في أي أمر من الأمور، وكانوا يستمعون باحترام إلى الرجال ذوي المكانة. وكانوا يوافقون بالإجماع على القرارات التي يصل إليها المجتمعون. ولم يكن هناك من يحب أن يجد لنفسه الشخص الوحيد الذي يدافع عن رأي لا يشاطره فيه أحد، فكان لكل قرية في العصر النيوليتي مجموعة من العادات التي تحدد علاقات الأشخاص فتصبح قانوناً».. هذا ما تركته لنا ثقافتنا المادية، فلماذا لا نحرص عليها، مع كل الشكر والتقدير لكل القائمين على مشروع تطوير مدينة جدة الرائع وعلى رأسهم سمو الأمير خالد الفيصل، إلا أننا نطمح إلى ثقافة مادية تسجل ملامحنا الشخصية والحضارية للأجيال القادمة. Your browser does not support the video tag.