تملك المملكة ثراءً حضاريًا يتمثل في الآداب الشعبية والمرويات الشفهية والفلكلور المتنوع، التي تعبر في مجموعها عن عمق ثقافي وطني؛ لذلك اهتمت وزارة الثقافة بإطلاق مسابقة تعنى بالفلكلور الشعبي، تهدف إلى إبرازه والتعريف به ونشر ثقافته بين الأجيال القادمة.. فهل يمكن من خلال هذا الإرث والموروث الشعبي تسويق ثقافة المملكة خارجيًا؟ أو استخدامه كوسيلة تواصل حضارية فاعلة لجذب السائح الأجنبي، وبالتالي إيجاد بيئة سياحية يقصدها الزوار من أصقاع الأرض؟ وكيف يمكن الاستثمار فيه كأحد روافد أو مصادر الدخل الوطني في ظل هذا التنوع والثراء بمختلف مناطق المملكة؟ البلوي: ثقافة أصيلة تعبر عن الهوية "المنهجية العلمية" يقول الدكتور حامد الأحمدي – كاتب ومؤلف في التراث الشعبي–: الاهتمام بالتراث الشعبي توثيقًا ودراسة يسهم في إبراز الهوية، وتعزيز اللحمة الوطنية، ويذكي مشاعر الانتماء؛ لما يرسخه من وعي بالشخصية الحقيقية المعبرة عن الوجدان الجمعي وتمكين الارتباط بالأرض، مشيرًا إلى اهتمام الدول بهذا الجانب لأسباب وبواعث وطنية في المقام الأول، وبذلك نشأ على امتداد قرنين من الزمان علم التراث الشعبي (الفولكلور)، الذي يتخذ من الثقافة الشعبية المتوارثة موضوعًا له، موضحًا أنهُ يشتمل على التصورات والأساطير الشعبية والعادات والتقاليد وجميع أشكال الأدب الشفاهي المنقول جيلاً عن جيل كالقصص والأمثال والشعر والتعابير اليومية والألغاز، إضافة إلى ما يتعلق بالثقافة المادية الشعبية من الحرف والبيوت والزينة وما شابه، وكذلك الفنون الشعبية وفنون الأداء متضمنة فن إلقاء الآداب الشعبية ذاتها. وأضاف الأحمدي: لهذا العلم موضوعاته وحدوده، أدواته ونظرياته ومناهجه. وما أكسبه الرسوخ والتطور فهو أهميته وأدواره، ومنها دراسة المشكلات المحلية، والمساهمة في التنمية المحلية، وتنمية الحرف، وتشجيع السياحة، ومن أشكال ذلك إقامة متاحف وأرشيفات التراث الشعبي، ومتاحف الهواء الطلق، والقرى التراثية والأسواق الشعبية. وتمتلك المملكة لمكانتها الدينية والحضارية وكونها منبع الدين الإسلامي ورحم العروبة وملتقى حضارات العالم ومهد حضارات أمة عريقة ضاربة الجذور ذات تاريخ ممتد تجلى فيه الإنسان في التعاطي مع بيئته موقعًا وموضعًا بإبداع وتفرد منذ آلاف السنين، تمتلك إرثًا ثقافيًا يجمع بين العراقة والثراء والتنوع. وهذا الإبداع الإنساني هو ما يميز هوية البلدان، فيجعل لكل بلد طابعه المتفرد دونما تقليل من المشترك الإنساني. وَمِمَّا يُشاد به توجه وزارة الثقافة إلى توثيق التراث الشعبي للمملكة، وفِي هذا إكمال للجهود الرسمية والفردية السابقة، إلا أن المطلوب وهذا المأمول والمتوقع أن تكون هذه الجهود المعتزمة متسمة بالشمولية والمنهجية العلمية حفظًا للتراث، وإبرازًا لثراء حضارة وثقافات المملكة العربية السعودية. "الهوية والتراث" من جانبها، أشارت فاطمة البلوي - الكاتبة والباحثة في الموروث الشعبي – إلى أن التنوع الثقافي والبيئي في هوية وتراث المملكة جعلها هدفًا سياحيًا للعالم، وهو هدف قديم جدًا لما تختزنه أرض المملكة من إرث حضاري وبشري ممتد عبر التاريخ منذ بزوغه.. نجدها عبر ممارسات المجتمع في العادات والتقاليد، التي تكوّنت منها هويتهم، تركوها بإرث شعبي ثقافي عظيم في المرويات والقصص والحكايات والفنون الشعبية المختلفة وفي الأدب الشعبي والملابس والأكل وفي ترابط المجتمع وأخلاقه وفي طريقة البناء في التراث العمراني الذي ينفرد ببناء ثقافي يعبر عن ثقافة تواصل اجتماعية بهوية مستقلة تختلف عن العالم. مؤكدة أن كل ذلك جعل للمملكة أهمية سياحية عالمية تهفو لها القلوب التي تبحث عما يشبع رغبتها ونهمها عن الاستكشاف لعادات اجتماعية نقلها مجتمع الجزيرة العربية عبر الحضارات والأجيال في ممارساته التي تعبر عن إرث تاريخي عظيم، مضيفة أن هناك مكونات ثقافية شعبية تاريخية تحتاج لإبرازها عالميًا.. من خلال مسابقات وبرامج تُطرح لدعم المجتمع بالعودة إلى تراثه والاهتمام به ونشله من الاندثار بسبب الانفتاح العالمي، وتسويقه إعلاميًا ليتعرف العالم عليه عن كثب، وليكون جاذبًا سياحيًا، لافتة إلى أهمية أن يطرح هذا التراث الشعبي بما يكفل احتواءه للثقافة الأصيلة التي تعطي فكرة شاملة عن هوية المملكة الثقافية الغارقة في التاريخ للباحثين والزوار كوسيلة سياحية ناضجة سبقتنا فيها دول أقل منا ثقافة، ولقيت رواجًا سياحيًا كانت لها مصدرًا اقتصاديًا اعتمدت عليه في ميزانيتها.. فكيف بالمملكة التي تحوي إرثًا كبيرًا في تنوع ثقافي وبيئي له أثر كبير على المجتمع، وحضارات تركت آثارها ونقوشها وممارسات عبر مجتمع عرف كيف يصارع الحياة حتى لانت له قساوة الصحراء فابتكر واكتشف، واستطاع أن يصنع لنفسه وسائل الترفيه بالغناء والأناشيد والقصص والحكايات. ومن هنا تأمل الباحثة من المهتمين من المواطنين التفاعل الجاد مع مسابقة وزارة الثقافة المتعلقة بالفلكلور الشعبي والمشاركة بها لإعادة إحياء تراثنا الشعبي الجميل وتعزيزه في نفوس الأجيال، مطالبة الوزارة بتكثيف إعلانها عن المسابقة لتصل لأكبر شريحة وتكون حقيقةً مشاركة شاملة تقدم أكبر قدر من الفنون الشعبية المتنوعة في المملكة، التي ستجد انطلاقة عالمية عبر استمرار هذه المسابقة ونجاحها. السنان: تطوير الموروث يبدأ بتوثيقه "الحضارة العميقة" وترى الدكتورة مها السنان – مستشار في التراث والفنون – أن الفنون التقليدية سواء كانت فنون أداء مثل الرقصات التقليدية أو الأهازيج، أو المرويات من أساطير وقصص - جزء مهم لأي شعب أو حضارة، تتفاخر الأمم بها وتتصدر مشهدها الثقافي والسياحي، وقالت: يكفي أن نعلم أن اليونسكو وضعت قائمة للتراث العالمي غير المادي الذي يتضمن مثل هذه الممارسات، مشيرة إلى أن عديدًا من الدول سارعت لتسجيل عناصر متنوعة مثل اليابان والصين وكوريا، نظرا لأنها تقوم على حضارة عميقة وثقافة مميزة، كما عملت خلال عقود على حصر وتوثيق تراثها غير المادي من فنون تقليدية أدائية ومروية وممارسات وعادات، كما سهلت وضع قوائم الحصر والتوثيق وإعداد تلك الملفات وتدوين تاريخهم وتراثهم، مبينة أنها أصبحت لاحقًا من الممارسات المميزة التي تستهدف السائح لتلك الدول، حيث يجد عروضًا ذات جودة عالية يتعرف من خلالها على تراث وثقافة تلك الدول بعيدًا عن الشكل المعاصر الذي تحولت إليه مدنهم! وتوضح السنان أننا اليوم في السعودية نطمح أن نكون وجهة سياحية من الدرجة الأولى، يعيش السائح تجربة فريدة، يجد المعاصر، والحديث، ويتلمس في الوقت ذاته ويتذوق ثقافة مختلفة تمامًا، بصريًا وحسيًا، تكون فيها العروض الثقافية المقتبسة أو المطورة أو الناسخة لفنوننا التقليدية هي التجربة الفريدة، ولن نستطيع أن نطورها ما لم نوثقها، ونعلمها. ومن هنا نشيد بمشروع توثيق الفنون التقليدية والتراث كونه مشروعًا وطنيًا يجب أن يسهم فيه الكل، ليربح فيه الجميع. "الهوية الناضجة" وفي السياق ذاته تحدث عدنان عيسى العمري – باحث تاريخي – عن أهمية التراث الشعبي وكونه مكونًا أساسيًا للهوية، والهوية معبرة عنه وناقلة له، والأمم تُعرف بهويتها التراثية التي تجسدها الثقافة والحضارة. مضيفًا أن المحافظة على الموروث بأنماطه المتعددة واجب ومسؤولية ورسالة، وهو رصيد إنساني خصب، تنهل منه الأجيال، وهو مصدر معرفي وحضاري نبني عليه مستقبلنا، والحفاظ عليه واجب، والتفريط فيه انسلاخ من الهوية وتنكر للأصول، والحفاظ على الموروث هو حفاظ على الهوية. مؤكدًا أن هذه الخطوة من وزارة الثقافة تستحق الشكر والثناء، فهي تقوم بصون الموروث، والحفاظ عليه، وإعادة إحيائه من جديد، وتُسهم أيضًا في حمايته من الاندثار مع التغيرات المتسارعة التي نشهدها نحو الحضارة. لافتا إلى أن الموروث يستمد جذوره من المجتمعات المحلية، والوزارة بهذه الخطوة تقوم بحماية الهوية الثقافية للجزيرة العربية، وهي خطوة تشجع المهتمين بالموروث عبر تقديم الجوائز لهم. ويرى العمري أن هذه الرؤية الناضجة لوزارة الثقافة بهذه المسابقة تعمل على صيانة الموروث، ما يسهم ويساعد على إثراء هذا الجانب من أقسام التراث غير المادي، الذي سيؤدي إلى الاحترام المتبادل بين فئات المجتمع عبر التنوع لمختلف أنواع الموروث، فيعزز الشعور بالانتماء الوطني، ويشكل حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو مشروع يحمل فكرًا نيرًا تقف خلفه مؤسسة تدرك أهمية الاهتمام بالموروث، ولعل من النتائج التي ستظهر لنا معرفة المناطق التي يتعدد فيها الموروث أكثر من غيرها، وعلاقة ذلك الموروث بالحياة الاجتماعية، كما سينتج عنه رؤية مستقبلية في تركيز الاهتمام به، والحفاظ عليه، وتظهر لنا المناطق التي تحتاج إلى الرعاية والمساندة أكثر من غيرها قبل اندثار الموروث بها. وقدم العمري اقتراحه للقائمين على هذا المشروع بالإعلان عنه في كل وسائل الإعلام حتى يصل إلى أكبر شريحة من المجتمع، كما يأمل من جميع المهتمين بالموروث المشاركة في هذه المسابقة حفاظًا على موروثنا الوطني. "المهرجانات التراثية" ومن جانب اقتصادي لأهمية الاستثمار في الموروث الشعبي، قال الكاتب والمحلل الاقتصادي عبدالرحمن أحمد الجبيري إن ذلك يأتي في إطار دعم السياحة الثقافية، التي تحظى باهتمام كثير من السياح ودول العالم؛ حيث يشكل هذا الموروث والفلكلور ذائقة ثقافية يتزايد الإقبال عليها، لافتًا إلى انتشار هذه الثقافة في الأوساط السياحية في مختلف دول العالم بتنظيم عديد من الفعاليات الحية سواء في الداخل أو الخارج. وقال: المملكة أيضًا شاركت في عديد من المناسبات الدولية، وهو ما يعكس الاهتمام الذي توليه بسياحة الثقافة والتراث، من خلال البدء في منظومة من المشروعات التراثية، والمنتجات والفعاليات المتعلقة بالسياحة الثقافية، إضافة إلى نشر وتعريف المجتمعات بالتاريخ الحضاري والثقافي للمملكة. وتابع: إن مكونات صناعة السياحة الثقافية اليوم باتت جزءًا لا يتجزأ من منظومة السياحة، وتحمل في أبعادها جوانب اقتصادية واستثمارية أخرى؛ كونها تعد نمطًا مترابطًا من عدة أطراف تكاملية، مثل الإرث الثقافي والتراثي، ومواقع التراث الثقافي الأثرية والتراثية، والحضرية والريفية والمتاحف والمسارح والمعارض والأسواق الشعبية والفلكلور الشعبي، وما يمكن أن يقوم به القطاع الخاص من اتجاهات استثمارية ناجحة في هذا الإطار، كما يوجد في المملكة أكثر من 150 متحفًا أثريًا مفتوحة ومهيأة للزيارة، تستقبل السياح والزوار من داخل المملكة وخارجها، إضافة إلى أكثر من 50 موقعًا من مواقع التراث العمراني. وأضاف أنهُ وبحسب تقرير صادر عن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، فقد تنوعت الأغراض السياحية الثقافية واهتمام الزوار ما بين حضور المهرجانات والفعاليات الثقافية التي نالت ما مقداره 39.7% من إجمالي الرحلات الثقافية، في وقتٍ شهدت فيه الأماكن التراثية إقبالاً كبيرًا من السياح، وبلغت نسبة زيارتهم من عدد الرحلات الثقافية 20%، كما أن هناك كثيرًا من المبادرات والفعاليات مثل المهرجانات التراثية والثقافية والتاريخية من أبرزها: سوق عكاظ، مهرجان جدة التاريخية، مهرجان الصحراء في حائل، مهرجان الغضا بعنيزة، مهرجان البادية ببيشة، مهرجان الصقور بمحافظة طريف، لتضاف إلى مهرجانات تراثية وطنية كبرى مثل مهرجان الجنادرية، ومهرجان الملك عبدالعزيز للإبل. وبيَن الجبيري أن الحاجة ماسة لمزيد من الدراسات والبحوث الميدانية والمؤشرات التي ستعزز بدورها من أهمية البعد الاقتصادي والاستثماري؛ حيث إن هذا التوجه سيخلق فرصًا جديدة في مجال الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة، كما ستخلق مزيدًا من فرص العمل وصولاً إلى الإسهام في التنوع في مصادر الدخل الوطني. العمري: رصيد تنهل منه الأجيال الجبيري: ذائقة ثقافية تدعم السياحة الأحمدي: وجدان جمعي يرسخ الانتماء