في تقارير متلاحقة عن أبرز الوظائف التي ستختفي مستقبلاً، كانت محل اهتمام الرأي العام، بل إن قنوات تلفزيونية كبرى ومراكز بحث متخصصة أفردت لها وقتًا ومساحة، جاء ذكر المعلم "المدرس" في المراتب الأولى التي من المتوقع أن تختفي.. وفق سياق خطير وافقت عليه مراكز بحثية كثيرة، وكأن التعليم سيتحول فيما بين تلميذ وجهاز حاسوبي فقط. هنا لن نختلف معهم في أن جميع الوظائف سواء كانت تحت ظل التقنية المباشر أو بعيدة عنها، ستتأثر من حيث تقليص العاملين فيها، بل نؤمن بأن وظائف ستختفي، مثل: خدمات البريد، والسائق الخاص، والمسوقين، وكثير من عمّال المصانع، وجزء كبير من المهن الإعلامية.. وغيرها مما يصعب حصره وفقًا للثورة التكنولوجية، التي تسير بتسارع جعل من العالم لا يعرف المدى الذي ستأخذه إليه هذه التقنيات. أعود إلى المواقع المتخصصة والدراسات المُحكّمة، تلك التي جعلت من معلم المدرسة من بين الوظائف التي ستختفي خلال عقد أو عقدين من الزمن، لأشير إلى أنهم يتفقون في تبريرهم لكون التعليم المجاني وثروة المعلومات عن طريق شبكة الإنترنت من الأسباب التي تهدد مستقبل المعلمين.. ومع ذلك لم يعطِ أحد مبررات تربوية لاختفائه، والاستعاضة عنه بروبوت أو جهاز متنقل. نحن هنا لا ننفي التأثير الكبير للتكنولوجيا، لكن ما نؤمن به أكثر أنه سيكون هناك دائمًا دور للمعلمين في مجال التعليم، ولكن قد يتغير هذا الدور بسبب التقنية الجديدة والأنظمة الذكية، بحيث يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تقوم بمهمة التقييم والتصنيف، لدرجة أن تساعد التلاميذ على تحسين التعلم.. بمعنى أشمل ستكون معينًا كبيرًا للمعلم، وستيسر عمله، لكنها لن تلغيه، بل ستلغي مرادفات أخرى للمعلم كالدروس الخصوصية مثلاً. من الدراسات والبرامج التي اطلعت عليها لاحظت أن لا أحد يرغب باستبدال المعلم، وأزيد على تبريراتهم العلمية بأن القدوة والمتابعة النفسية والتربوية، ناهيك عن دوره كميسّر، لا بد أن تكون حاضرة في التعليم، خاصة في مراحل التعليم الأولي حتى ما قبل الجامعة.. ورغم أن التقنية كاسحة، إلا أنه في المراحل التعليمية التي ذكرناها، لا تستطيع أن تصنع روبوتًا شبيهًا بالإنسان أو جهازًا حاسوبيًا يستطيع أن يتفاعل كما الإنسان، في ظل أن التعليم تفاعل نفسي تربوي، تتقافز مفرداته ومعلوماته وفق آليات عقلية، تستحضرها فجأة لا تجدها في الحاسوب.. بمعنى أن التعليم ليس تلقينًا فقط. قد يحق لنا أن نقول إن وظيفة المحاسب مهددة بالفعل؛ لأن الآلة ستحتوي كل الأرقام والخوارزميات، وعمل المحاسب لن يحيد عنها.. أما المعلم فلن تستطيع الأجهزة بلوغ شأنه، فما يحتاج إليه التلميذ ليس علمًا فقط، بل أشياء كثيرة لا يقدر عليها إلا المعلم البشري ببعديه الاجتماعي والنفسي، وقدرته على المسايرة والتحفيز وإدراك الحاجات المتعلقة بالنواحي التربوية