يمثّل هذا القرار الحكيم دفعة قوية للمهرجان لفضاءات جديدة من التطوير والارتقاء كما أنه يمثّل استجابة طبيعية للمرحلة الحالية وبما تزخر به من تحدّيات تجعل إعادة موضعة الثقافة والتراث في مكان يعكس قيمتها الحقيقية عبر إسنادها لوزارة الثقافة كجهة متخصصة.. تنزع الدّول المتحضّرة - دوماً - إلى استثمار ذخيرتها الشعبية بفروعها كافة؛ في تكوين هوية ثقافية حقيقية، باعتبارها جوهراً كونياً خالداً يُدلّل على الماهيّة من خلال علامات وخصائص مختلفة، كالذوق والمعتقدات والمواقف وأنماط الحياة؛ ما يعني أنّ الهوية الوطنية ملمح ثقافي مهم؛ وهو ما يفسّر سعي الدول إلى تكريسها وتجذيرها في الوعي المجتمعي. ف «الهوية الوطنية»؛ - كما تقدّمها الدراسات الثقافية - هي وسيلة لتوحيد التنوّع الثقافي، وشكل من أشكال التماهي مع الدولة، فضلاً عن انطوائها على تماهٍ مع التجارب المشتركة والتاريخ كما قيل من خلال القصص، والأدب، والثقافة الشعبية، ووسائل الإعلام. في مبحث مهم عن صراع الجغرافيا والحضارة يلفت الباحث ثامر عباس إلى أهمية التاريخ والتراث فيقول: «إذا كان الإنسان بواسطة التاريخ يؤسّس لوجوده الطبيعي فوق تضاريس الجغرافيا وبين طبقاتها الجيولوجية، فإنه ومن خلال الحضارة يحقق لفعله الاجتماعي الامتداد في بيئتها الإيكولوجية، ويضمن لوعيه الرمزي بالاضطراد في إطار حدودها المكانية. هذه الإشارة تقودنا إلى قرار مجلس الوزراء القاضي بنقل المهمات المتعلقة بإقامة وتنظيم فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة (مهرجان الجنادرية)، من وزارة الحرس الوطني إلى وزارة الثقافة. ويمثّل هذا القرار الحكيم دفعة قوية للمهرجان لفضاءات جديدة من التطوير والارتقاء كما أنه يمثّل استجابة طبيعية للمرحلة الحالية وبما تزخر به من تحدّيات تجعل إعادة موضعة الثقافة والتراث في مكان يعكس قيمتها الحقيقية عبر إسنادها لوزارة الثقافة كجهة متخصصة تدخل هذه الحقول: الثقافة والتراث في نسيج تكوين مهامها؛ وهو ما يعني أنها قادرة -بحول الله- على مواصلة النجاحات السابقة التي مرّ بها هذا المهرجان حتى بات ملمحاً حضاريّاً لافتاً نفاخر به. ولا شك أنّ إسناده - وهو بهذا التراكم من النجاح والخبرة - إلى الثقافة سيزيد من تعزيز الشعور القومي المجتمعي وتجذير الوعي الهويّاتي عبر إغناء الجوانب الحضارية والثقافية لبلادنا التي تزخر بكنوز تاريخية وثقافية وحضارية لا تضاهى سواء فيما يخص ميدان الأدب الشفاهي (أو الأدب الشعبي) والحياة الشعبية المادية أو الثقافة المادية، والعادات الاجتماعية الشعبية (ويضمنها المعتقدات الشعبية) وكذلك فنون الأداء الشعبي (الموسيقى الشعبية والرقص والدراما). ولعل هذا القرار وما سبقه من حدث ثقافي شهدناه قبل أيام؛ وهو إنشاء وزارة الثقافة أول مسابقة وطنية لتوثيق «التراث الصناعي» في المملكة، بجوائز تصل إلى نحو مليون ريال، وتعتمد مشاركة مفتوحة لعموم المواطنين والمقيمين؛ وتهدف المسابقة إلى توثيق التراث الصناعي إلى اكتشاف أهم المعالم المعبّرة عن هذا التراث في جميع مدن ومحافظات المملكة، بمشاركة المواطنين والمقيمين من مختلف الشرائح الاجتماعية. هذا التراث الذي يعد من الأنماط التراثية الحديثة المرتبطة بالتطور الصناعي في العالم، ويشتمل على بقايا الثقافة الصناعية القديمة، سواء التكنولوجية أو الاجتماعية أو المعمارية أو العلمية، ويتكون من المباني والآلات والمصانع والمناجم ومواقع التكرير والمستودعات. كل هذا الحراك يعكس أهمية التراث والتاريخ والقيمة الحضارية التي تتمتّع بها المملكة العربية السعودية؛ وضرورة إيلائها الأهمية التي تليق بها وبموقعها وأهميتها السوسيولوجية والجيوسياسية والاقتصادية لا سيما وأن جميع مواد التراث الشعبي والحياة الشعبية تمثّل أهمية علمية وتاريخية سواء للدارسين والباحثين وكذلك راسمي السياسة والاستراتيجيات المجتمعية؛ فهي من العتاد المعرفي الذي يستعين به العلماء لإعادة بناء الفقرات التاريخية الغابرة عبر الشواهد والآثار تساهم في هذا البناء وبما يُعرّف باسم منهج إعادة البناء التاريخي كما أنه يعمّق المعرفة التاريخية ويوسّعها باعتباره مدخلاً لفهم الثقافة والبناء الاجتماعي القائم ومعيناً على دراسة هذا المجتمع بكافة تنوّعاته وغنى إرثه وفنونه وعاداته. أعتقد - وبيقين جازم - أن وزارة الثقافة الفتية بكامل حمولتها المعرفية وحضورها المبهج في شتى المناشط الفكرية والثقافية عموماً؛ وبطموحها الشاسع الذي لا تحدّ سقفه حدود؛ قادرة على أن تبوء بمهامها ومبادراتها الكبيرة المتعددة؛ وتستثمر الفضاء المدهش اللا متناهي لتضاريس مملكتنا بصنوفها كافة؛ الطبيعية أو الإنسانية باعتبار أن شخصية المملكة بمكوناتها الطبيعية وأقاليمها المتباينة التكوين تتّسم بتنوّع وفرادة مذهلة وجغرافيتها تتمتّع بشخصية إقليمية أكبر من مجرّد المحصّلة الرياضية لخصائص وتوزيعات الإقليم، فهي منطقة تحتاج منا جميعاً - مؤسسات وأفراداً- أن نسعى لمحاولة النفاذ إلى «روح مكانها» لنستشفَّ «عبقريّته الذاتية» التي تحدّد شخصيته الكامنة وفق فكرة الهيكل المُركّب عند بعض الجغرافيين الأميركيين أو ما يُعرَف كاصطلاح عام «بعبقرية المكان».