لأول وهلة قد يتبادر إلى الذهن أن الأدب والكتابة بعيدان كل البعد عن كرة القدم وجماهيريتها الطاغية وجماهيرها الشغوفة المتعصبة، بل ربما يرى أحدنا أنهما ضدان يقفان على طرفي نقيض، الكتابة بدأبها وجديتها والتزامها وعزلة صانعها وكرة القدم بإثارتها وفوضويتها وجنونها، لكن ما أن يقترب الراصد رويدا حتى يرى هذين الضدين المزعومين وقد انسجما بصورة واحدة جميلة وبديعة تذكّر المتأمل ببيت الشاعر المنبجي حين قال: «ضدان لما استجمعا حسنا.. والضد يظهر حسنه الضد». بل ربما يلاحظ حين يقترب أكثر من ذلك بكثير. سر يقول الكاتب الأوروغوياني الراحل إدواردو غاليانو: حين كتبت «كرة القدم في الشمس والظل» أردت أن يفقد محبو القراءة خوفهم من كرة القدم وأن يفقد محبو كرة القدم خوفهم من الكتب. لم يخطر ببالي البتة شيء غير هذا، لكن عضوا سابقا في الكونغرس المكسيكي «فيكتور كوينتانا» قال لي: إن الكتاب أنقذ حياته. وقصة ذلك أنه في منتصف العام 1997م تم اختطافه من قبل قتلة مأجورين أستؤجروا لمعاقبته على كشفه بعض الأعمال القذرة فكان أن طرحوه أرضا وأوثقوا رباطه، وراحوا يركلونه حتى شارف على الموت، وقبل أن يجهزوا عليه رصاصة، بدؤوا النقاش حول كرة القدم. ورغم أن فيكتور كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، أدلى بدلوه في النقاش. وانبرى يروي لهم قصصا من كتابي ومع كل حكاية من تلك الصفحات كان ثمة دقائق تضاف إلى حياته. مر الوقت والقصص تجيء وتمضي. وفي الأخير تركه القتلة، مضروبا ومحطما لكنه حي. قالوا له: «أنت في مأمن» وذهبوا بأسلحتهم إلى مكان آخر». عند هذا الحد سنعرف أن اندماج الأدب بكرة القدم يفعل العجائب. فهل ثمة سر خلف هذا؟ فن الكاتب السعودي سعيد الأحمد أحد المهتمين بهذا المجال، وسبق أن صدر له رواية بعنوان «رباط صليبي» بطلها لاعب كرة قدم، قال: يقول أخي الدكتور فيصل أن مركز الفنون في دماغ الإنسان واحد؛ فهناك خانة معينة في الدماغ تجمع الفنون، وزوايا أخرى لوظائف أخرى.. الفنون بأشكالها المتعددة طبعا، دون صيغة مسبقة ومحددة: الموسيقى، التشكيل، الأدب، وكرة القدم أيضا.. قد تعرفون أن عبدالعزيز مشري -رحمة الله عليه- كان أديبا وعازفا ورساما، وقد تعرفون أيضا أن الدكتورة هناء حجازي أديبة وفنانة تشكيلية، وقد لا تعرفون أن عبدالله نور -الأديب الفذ- كان لاعب كرة قدم، وأن غارسيا ماركيز كان كاتبا رياضيا، دون الحاجة للتذكير بأدواردو غاليانو.... نجيب محفوظ كان أهلاويا، أو ربما زمالكاويا، فقد خانتني الذاكرة، غير أنه كان مغرما بكرة القدم وكان يجادل بها على مقهى الفيشاوي وما حوله.. صديقنا يوسف المحيميد أديب متمرس ومتذوق فائق لكرة القدم، ولن أخفي عليكم سرا أنه لاعب كرة قدم سابق، الفنان المطرب بدر الحبيش كان لاعب كرة قدم أيضا.. بوفون، حارس يوفونتوس ليس مجرد لاعب كرة قدم، بل أديب وفيلسوف.. ماجد عبدالله ويوسف الثنيان كانوا أيضا فلاسفة ولهم قراءاتهم الخاصة للعشب ولأرواح الجماهير، وهذا ما يجعلني أجزم أن الفن لا يتجزأ، والأدب وكرة القدم لا يبتعدان عن بعضهما!». ضد أما الكاتب الكويتي عبدالوهاب سليمان فقد بدأ حديثه بهذا الاقتباس: «كل ما أعرف في حياتي أنا مدين به لكرة القدم» ثم أكمل :» قد نظن بعد قراءة الاقتباس السابق أنه قول صادر من لاعب كرة قدم أو مدرب، لكنه صدر من فيلسوف وأديب مرموق هو ألبير كامو. كان كامو لاعب كرة قدم، في مركز حراسة المرمى، ولعب مع فريق جامعة الجزائر. ربما حُرم العالم من حارس مرمى مميز، لكنه كسَبَ روائيا وفيلسوفا مدينا لكرة القدم. يظن الكثيرون أن اﻷدب والكرة ضدّان، منهم بعض اﻷدباء مثل بورخيس، الذي رأى في كرة القدم وسيلة ﻹلهاء الشعوب. وعلى الجانب اﻵخر، ثمة أدباء، ليسوا بقلة، رأوا أن اﻷدب مرتبط بشتى مناحي الحياة، وكرة القدم ليست باستثناء. أما عن كيفية ارتباط اللعبة باﻷدب، فقد تتبادر في أذهاننا مقولة متكررة، يعرفها العالم والمتواضع سواء؛ كرة القدم هي اللعبة الشعبية اﻷولى في العالم. شعبية كرة القدم، وأخبار الفرق والنتائج جعلت الفقير ينسى همومه للحظة، وأفسحت المجال للغرباء في الحديث بالمقاهي. أناس يعتبرون مواد خام للروايات والقصص بجانب اللاعبين والعاملين في كرة القدم، إذ قال إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم في الشمس والظل»: إن «كرة القدم تقدّم ألف حكاية وحكاية مهمة، فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس وفيها يبتدئ الصراع بين الحرية والخوف». في الرواية مثلا، يمكن للروائي أن يتخذ من واقع كرة القدم في بلده فضاء يتناول فيه قضايا مهمة تمس مجالات الحياة كافة، كما فعل شكري المبخوت في رواية باغندا العام «2016»، الذي عالج قضيتي العنصرية والفقر عبر بطل روايته لاعب كرة القدم، وأكّد في لقاء سابق «أن كرة القدم تجاوزت المفاهيم التقليدية القائمة على المنافسة في ظل 90 دقيقة وهي اليوم أعمق وأشمل، ولها خلفيات سياسية واقتصادية وجب أخذها بعين الاعتبار بالنسبة للروائي». خلل فيما قال المترجم المصري محمد الفولي -الذي ترجم كتبا عديدة في هذا المجال مثل «أغرب الحكايات في تاريخ المونديال» للأرجنتيني لوثيانو بيرنيكي-: يزدري خورخي لويس بورخيس كرة القدم، لكن إدواردو غاليانو يحبها. ماريو بينديتي أيضًا من عشاقها، لكن أومبريتو إيكو لا يتفهم شغف مشجعيها، على عكس كاميلو خوسيه ثيلا الذي ألف مجموعة قصصية كاملة عن عالمها. قد تطول قائمة كارهي ومحبي اللعبة من أعلام الأدب العالمي بالطريقة نفسها التي قد تطول بها آخر خمس دقائق في مباراة تفصل فريقا عن لقب، فتصبح أبدية وبلا نهاية، لكن الواقع يُخبرنا على أي حال أن الكتابة الأدبية عن كرة القدم شيء حقيقي. لطالما كانت العلاقة بين الأدب وكرة القدم شائكة ومعقدة وملتبسة. ثمة أدباء يبغضون اللعبة وكل ما يرتبط بها. يعتبرونها مجرد ملهاة للشعوب، فينظرون لها ولعشاقها باستعلاء، في ظل رفضهم لتفهم ارتباط مفاهيم مثل الشغف والولاء والحب بالبساط الأخضر، لكن ثمة فئة أخرى تحب كرة القدم، تتفهم عالمها، وتراها مادة خصبة للكتابة، شأنها شأن أي شيء آخر في الحياة، لدرجة أن تصنيفًا خاصًا بها قد بزغ نجمه خلال السنوات الأخيرة، وكانت أميركا الجنوبية -وتحديدًا الأرجنتين- مهده. يسعى أدب كرة القدم منذ ظهوره في الأرجنتين لعكس هذه الصورة الإنسانية عنها سواء عبر حبكات كروية خالصة أو استخدامها كمنصة للوثب نحو شؤون أخرى، قد تكون سياسية، تاريخية أو اجتماعية. تتجلى هذه المسألة في كتاب «حكاية عامل غرف: مختارات من أدب كرة القدم الأرجنتيني»، الذي نقلته بنفسي إلى العربية العام الماضي، والحقيقة أن أكثر ما استمتعت به أثناء هذه المهمة، هو قدرة مؤلفي القصص على تطويع اللغة لخلق وابتكار -ليس فقط عوالم كروية أدبية- بل أيضًا تشبيهات وصور بلاغية فريدة. لقد كانت محاولتي للحفاظ على هذه الروح قدر الإمكان هي همي الأكبر حينها. ويكمل: ما أظنه كمترجم، ككاتب، كقارئ، كمشجع هو أن كرة القدم تقدم فُرصًا لتناول زوايا إنسانية متنوعة بطريقة أدبية؛ فلنتخيل أحد عشر لاعبا ضد أحد عشر لاعبًا لكل منهم حياته وخلفيته التي تؤثر على شخصيته فوق البساط الأخضر وطريقة لعبه، بخلاف كل ما يحدث في المباراة نفسها من تقلبات درامية ومأساوية تؤجج مشاعر المشجع، فإن كان كل هذا لا يمثل مادة خصبة للإبداع من زوايا لا تعد ولا تُحصى، فلا بد أن ثمة خللًا ما في طريقة تعاطينا مع الأمور». الأحمد: ماجد والثنيان فلاسفة يقرؤون العشب سليمان: الكرة فضاء لتناول قضايا المجتمع الفولي: مادة خصبة لتناول الكتابة الإنسانية البير كامو إدواردو غاليانو