يمتاز الشعر عن النثر بالصور الفنية المُجنّحة على (بساط الريح)، الذي هو (الخيال المبدع الخلّاق)، إضافة إلى الموسيقى المتجسّدة في الوزن والقافية، ومعها الجرس الداخلي من الكلمات المتجانسة أو المتقابلة، وما يماثلها من فنون (البديع) الذي له باب مسقل في كتب (البلاغة).. وهذه المزايا تُخرج (النظم التعليمي) من عالم الشعر بمعناه الجميل والمؤثر في الوجدان، فالنظم وُضِع لتسهيل حفظ القواعد مثل (ألفية ابن مالك) في النحو وغيرها.. والشعر المبدع الجميل يقوم كله على الإيحاء والتأثير في القلب وإطراب السمع، وتكثيف العواطف، وتجسيد المشاعر في صور تسافر بالخيال، سواء أكان ذلك الشعر بصور فيها تصريح أو تلميح، غير أن التصريح في الشعر لا يعني المباشرة والتقرير، وإنما يعني وضوح المعنى والتصريح بالعاطفة بشكل ظاهر محمول على جناح الشعر وحرارة عواطف الشاعر، التي تسري في شعره سريان الكهرباء في الأسلاك وتنتقل حرارتها وإنارتها لقارئ الشعر وسامعه.. والتلميح الذي نريد مقارنته بالتصريح أو مقاربته له لا نقصد به، هنا، الشعر الرمزي، فهذا موضوع أدبي آخر، بل نقصد به التأثير الخفي.. ولعل في تقديم بعض الروائع الشعرية مايُجلِّي الفروق بين التصريح والتلميح، والكل شعر مبدع، وغايته واحدة، وهي التعبير عن عواطف الشاعر، وتجسيدها في فنّ جميل يحبه الناس ويطربون له وربما يحفظونه ويرددونه جيلاً بعد جيل، وقد يمتزج فيه التصريح بالتلميح لصراعٍ في نفس الشاعر. حين أرادت قبيلة (بنو هلال) الهجرة من وطنهم الذي يحبونه كل الحب، ومن أرضهم التي يعشقونها ولهم فيها أعطر الذكريات، وهي (نجد) التي اضطروا إلى الهجرة عنها بسبب اشتداد القحط وضيق الرزق، قال أبو زيد الهلالي يخاطب (نجد) المحبوبة: (يا(نجد) لو انّ الجفا منكِ مرَّه صبِرنا ولكنَّ الجَفا منك دايمْ يا نجد وانْ جاك الحيا فازعجي لي مع الطَّيْر والاّ ذاريات النِّسايم فهنا يحتدم الصراع في نفس (أبو زيد الهلالي) بين حُّبه لنجد، ومعاناته من القحط، وعزمه على مغادرة أرضه طلباً للرزق، لأن قحطها - الذي عبّر عنه بالجفا- دائم.. فهو يصرّح بأنه لن يصبر على البقاء فيها طالما ظل جفافها سيِّد الموقف، ورغم ذلك يُلمّح لها بأنه سيعود إذا (جادها الحيا) ويريد من نجد - أيضاً - أن تُلمّح له بهطول الحيا وتحسُّن الحال، وأن ترسل له مرسولاً يأتي مع الريح ومع نسيم نجد العليل الذي يعرف حين يشمه أنها ممطورة مسرورة يكسوها العشب الكثيف ويضحك لها الربيع الجميل .. وعليا زوجة (أبي زيد) الهلالي، أرسلت له شعراً بديعاً - حين طال غيابه عنها واشتياقها له - ولمّحت لشدة شوقها بأسلوب بليغ وصور بديعة: يا ركب ياللى فى عصيرن تقلّلوا على ضمّرٍ شروا الجريد النحايل حتى قالت: اوصيكم وصات ما تثقل ركابكم ايلا اعتليتوا فوق هجن اصايل قولوا لا بازيد عليا مريضه ولا بقا من حاله الا القلايل قولوا لا بازيد لا غاب محلف يأتى على وجنا من الهجن حايل قولوا لابازيد ان نجد مخصبه ترى كل واد من مغانيه سايل ابا زيد تنسانى وتنسى جمايلى امداك تنسى ياجحود الجمايل ابا زيد حب الناس عام وينقضى وحبى انا وياك طول مطايل ابا زيد ملّ الله من ملّ قربكم من لا بكى يوم افتراق الحمايل ابا زيد لولا البحر بينك وبينى جيتك على وَجْنا من الهجن حايل حيال ثمان سنين ما مسّها الظنا ولا دارها الجمال بين العدايل لَكَن بنات البدو يمشطن ذيلها على ثومه العرقوب غادى همايل لَكَنْ صرير المرو من تحت خفها صريخ القطا فى محكمات الحبايل لكن يد البذار أو ماى راسها وان درهمت فى حاميات القوايل لكنّها بالحزم الادنى نعامه وبالحزم الأقصى من دقايق الزوايل غزاليه المقدم جمالية القفا هى شغلكم يا راكبين الرحايل فقولها: قولوا لابازيد ان نجد مخصبه ترى كل واد من مغانيه سايل تلمح له بأنها - علياء نفسها - مخصبة وشوقها له يسيل، ولكنها ظاهراً تُغريه بخصب نجد وجريان أوديتها العذبة، لأنها تعرف مدى حبه لنجد زمن الخصب..