جاءت المفاجأة الأهم في المعرض الذي يستضيفه المتحف الوطني مركز الملك عبدالعزيز، «مدن دمرها الإرهاب»، وهو معرض ضخم بحق نظمه معهد العالم العربي بباريس تحت مسمى «مدن السنين Cités Millénaires» وتم افتتاحه 10 أكتوبر 2018 من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون واستمر حتى 10 فبراير 2019، وجاءت المملكة كمحطة أولى في رحلته خارج فرنسا وذلك ضمن برنامج التبادل الثقافي بين المعهد ووزارة الثقافة السعودية التي استقطبت العرض خلال شهري إبريل وحتى 18 مايو 2019، وذلك ضمن رسالة وزير الثقافة الأمير بدر آل سعود الهادفة حسب تعبيره «لتنشيط المشهد الثقافي السعودي بما يعكس عراقة ماضينا، ويساهم في سعينا نحو بناء مستقبل يعتز بالتراث ويفتح للعالم منافذ مختلفة للإبداع..» ومعرض «مدن دمرها الإرهاب» يوظف أحدث تقنيات الواقع الافتراضي، حيث تم توظيف فريق من المصورين ومصممي الهندسة الرقمية الذين جمعتهم شراكة اليونسكو وشركات تقنية الواقع الافتراضي Iconem وUbisoft، والذين قاموا بتشكيل فرق تصوير نظمت زيارات للشرق الأوسط، وذلك لرصد أهم المدن الذي تضررت باحتلال الإرهابيين والحروب التي أججوها، وجلبت الخراب على مواقع أثرية لها عراقتها التاريخية بل وتعد من كنوز الحضارة البشرية في كل من تدمر وحلب بسوريا والموصل بالعراق ولبدة الكبرى (وليبتس ماجنا) في ليبيا. قامت تلك الفرق الفنية بتسجيل شهاداتها المصورة بالاستعانة بالطائرات بلا طيار drones)، وبناء هذا العرض المتشكل من عرض الدمار ثم بنائه افتراضياً بالاستعانة بصور المواقع قبل تدميرها والتي تم تكبيرها من وثائق المحفوظات بالأرشيف التاريخي، والتي نراها معروضة جنباً إلى جنب مع إسقاطات الشاشات العملاقة للواقع الذي يتم بناؤه بالتقنيات الافتراضية المذهلة، هذا بالإضافة لشهادات الفيديو المسجلة لمعاصري تلك المواقع قبل الحرب وبعدها، شهادات ناطقة بالألم حيث لا يُجدي نعي ولاحسرة. «مدن السنين» تجربة فريدة يجد المتلقي نفسه فيها وقد تم اختطافه ما بين شهادات الوجع تلك وبين شاشات العرض الضخمة التي تفترش جدران المتحف وتأخذ المتلقي في رحلة داخل تلك المدن ومواقعها الأثرية المُنْتَهَكة، رحلة ثلاثية الأبعاد تجعل الدمار حقيقة يدخل المتلقي في أنقاضه ويتجول بين حجارته ويقف تحت القبة الزرقاء التي نجت بإعجوبة من دمار جامع النوري الكبير الذي انهارت منارته الحدباء الشهيرة بعد صمود ثمانية قرون. يقف المتلقي شاخصاً أمام المسرح الروماني بتدمر الذي حوله الإرهابيون لساحة إعدام للمئات من تم تكفيرهم بظلم لم ينج منه لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ، تكاد تلتقط رائحة الدم وشهوة الإبادة تنضح بها أشلاء تلك الصروح العريقة. وختاماً فإننا نشعر بالفخر أمام هذا الحراك في ساحتنا الثقافية واليي لها مستويات مركبة، أبرزها ليس فقط وضع المملكة في سياق ثقافي عالمي رائد، وإنما والأعمق التغلغل ثقافياً في الشعب السعودي، أبسط مظاهر هذا التغلغل يتجلى في الشباب السعودي من الجنسين الذين يستقبلون الزوار بالمتحف الوطني يتفاعلون مع الجمهور بشرح تاريخ كل موقع تم تدميره، وتلقي ردود الأفعال والمشاعر المحتدمة على اختلافها. بادرة محفزة هذه التوعية التي تتحقق للشباب من خلال إشراكهم في التعريف بعمل فني بهذا الحجم العالمي وهذه القيمة الثقافية والتاريخية، فهو أشبه بصرخة استنفار لإنقاذ تراثنا العربي العريق من الإندثار بحركات التطرف والجهل. المعرض سيظل يحرك الكثير من المشاعر التي يتطوع الزوار بتلخيصها في رسائل من الأمل يسجلونها على لوح على باب الخروج من المدن التي دمرها الإرهاب، أواجه ذلك اللوح ويخونني الكلام في زخم اليأس من رجعة تلك الكنوز من حضارة شرقنا الأوسط، ومن عجز أكتب «ويبقى الإنسان، وهو الموصول بحبل المطلق.»