في المواقف الصعبة والأزمات تظهر شخصية الإنسان وثقافته وتربيته وقدراته، الظروف العادية ليست اختباراً للمهارات القيادية، ليس هذا ما تقوله أدبيات القيادة فقط بل ما تؤكده أحداث واقعية عبر التاريخ. المواقف الصعبة والأزمات اختبار للثقة بالنفس وقوة الشخصية والشجاعة ومهارات الاتصال واتخاذ القرارات الصعبة. لا يوجد مجتمع لا تمر به أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو كوارث طبيعية. في الأزمات يفرض عنصر السرعة نفسه للدفع نحو اتخاذ مواقف معينة، خاصة في الأزمات الإنسانية المؤثرة بشكل مباشر في حياة الناس وأمنهم. هذا ما حصل في نيوزيلندا وهي بلد آمن مسالم يتغذى على ثقافة التعايش والتسامح وفجأة تحدث المأساة في 15 مارس 2019 بمدينة كرايست تشيرتش. جريمة إرهابية بشعة يرتكبها إنسان متطرف بلا ضمير، يحمل فكراً لا يمثل نيوزيلندا. هذا المجرم يقتل 50 إنساناً بدم بارد في مسجدين، وينتقل البلد المسالم -في حالة نادرة- إلى قنوات الأخبار الدولية بصورة متتابعة، وهو بلد لم يكن تحت أضواء الإعلام الدولية إلا عندما تعرض لزلزال. كان يمكن أن تعم الفوضى، والارتباك، وربما تحدث عواقب أمنية خطيرة. لكن ذلك لم يحدث لوجود قيادة امتلكت الحكمة، ووضوح الرؤية، والثقافة، والحس الإنساني، والإخلاص لثقافة البلد التي تحترم الإنسان مهما كانت جنسيته أو لونه أو ديانته. هذه الصفات تجمعت لدى رئيسة وزراء نيوزيلندا الشجاعة السيدة جاسيندا أردرن، لم تكتف بالتعاطف الإنشائي ومهاجمة العنصرية، بل حولت مشاعرها إلى مواقف إنسانية عملية داعمة للمسلمين، ورافضة للفكر العنصري المتطرف، ودعت إلى تغيير قوانين الترخيص للأسلحة، وأمرت بإجراء تحقيق قضائي مستقل في هذه العملية الإرهابية سيشمل الاستخبارات والشرطة. هذه المواقف الإنسانية جعلت الآلاف يقترحون منحها جائزة نوبل للسلام، وهي تستحقها فعلاً، ولا أظن أنها فعلت ما فعلت من أجل هذه الجائزة. الدرس القيادي الذي قدمته للعالم رئيسة وزراء نيوزيلندا هو درس عملي لتعزيز ثقافة التسامح ومحاربة التطرف والكراهية وهي الثقافة الضرورية للتعايش وبناء العلاقات الإنسانية داخل المجتمعات، وبين المجتمعات دون أي تمييز. هذه الثقافة هي إحدى وسائل القوة الناعمة الفعالة لمكافحة الإرهاب، وهي التي يجب تبنيها في كل المجتمعات.