لست من دعاة الوقوف على الماضي والبكاء على أطلاله، ولست ممن يؤمنون بالدوران والطوفان على أضرحة الشعراء الأقدمين كأولياء للإبداع، يطلب منهم العون والمساعدة.. كلا، هذا أمر مستحيل.. ولكنني أؤمن بأن التجربة الإنسانية واحدة أو تكاد تكون كذلك، ومن ثم فإن الماضي إذا امتزج بالحاضر بكل ما فيه من تجارب خلاقة، فإنه يصبح مدداً للثقافة كما يصبح النبع مدداً للنهر، وهذا ما تأخذ به الأمم الراقية والمتحضرة اليوم، فقصائد شيلي ومارلو وشكسبير مثلاً تدرس في المدارس الإنجليزية، من أجل ذلاقة اللسان وطلاقته، وربط التليد بالجديد في تعاضد وتناغم ثقافي يعطي للثقافة وللكلمة جزالتها المتحضرة.. وعندما جاءت الحداثة إلى عالمنا العربي فهمناها فهماً ساذجاً وغير عميق، ولم نفهمها كفلسفة عقلية شاملة، وقد انتهى دورها في الغرب منذ زمن بعيد وجاءت فلسفة ما بعد الحداثة والتي نقضتها، ونحن لا نزال نخوض فيها حتى اليوم، ولقد خلطنا بين الحداثة وبين التحديث، واختزلنا مفهومها في الشعر والإبداع الفني، وتوهمنا أن الحداثة هي إلغاء للماضي، ونسفهُ وإخراجهُ وطردهُ من العقلية الثقافية، وأنها أيضاً طرد القصيدة بشكلها التقليدي، حتى مرت فترة من الفترات، لا ترى قصيدة عمودية إلا فيما ندر، وربما نُظر إليها بشيء من الازدراء، كما نال الازدراء والاستهجان القصيدة الواضحة حيث رميت بالتقليدية، والمباشرة، وكأن من شروط القصيدة الحديثة أن تكون مغرقة موغلة في الإحالة، والإبهام والغيبوبة، والخروج عن قانون الوعي والتفسير.. ونحن بذا نكون ركزنا على إطار وأرضية اللوحة ولم نركز على اللوحة وما فيها من جمال ومهارة وحذق.. لهذا السبب تنفست القصيدة من جانبها الآخر، وهو الجانب الشعبي أو الأمي فازداد نمو القصيدة الشعبية وظلت تزدهر، ويتعاظم شأنها حتى كادت تقضي على القصيدة الفصيحة لأن ابن الجزيرة شاعرٌ بطبعه أو مفطور على الشعر، فلما استعصى عليه فهم بعض قصائد الحداثة، لجأ للمفهوم، والواضح وهكذا عظم شأن القصيدة الشعبية حتى طغت على القصيدة الفصيحة، وصار لها حضور، صارت لها منابر ومنتديات، وملاحق شبه يومية في الصحافة، فطغت طغياناً واسعاً شاسعاً حتى كادت تغطي وتمثل حالتنا الأدبية.. وأصبح لنا أدبان، أدب شعبي شديد الوجود والحضور، وأدب فصيح أقل حظاً من العناية والاهتمام.. ولست متطرفاً في هذا القول، فلو أن أمسية شعرية أعدت لشاعر شعبي لما رأينا كرسياً فارغاً في القاعة!! ولو كانت هذه الأمسية لشاعر فصيح لوجدنا معظم الحضور كراسيَّ فارغة!! وأنا لست ضد الشعر الشعبي أو الأمي بعامة، فلكل أمة فلكلورها، الذي يعبر عن حالتها الاجتماعية في شؤونها الخاصة كأشعار الأغاني، ومناسبات الأفراح، وأشعار الفلاحين، والحصادين، وهذا موجود في تراثنا القديم، في العهد الأموي والعباسي، ولكنه لم يرتفع ويطغَ على الأدب الفصيح الذي يعبر عن المستوى الإبداعي للأمة ويمثل هويتها الأدبية..